الأهرام
اسامة الازهرى
مرة أخرى: متحف الفن الإسلامى
تشرفت يوم الأربعاء الماضي بزيارة متحف الفن الإسلامي، وشرفني الدكتور أحمد الشوكي مدير المتحف باستقبال حافل كريم، ثم صحبني في جولة ممتدة، شرح لي فيها الكنوز والذخائر التي يشتمل عليها هذا المتحف الفريد، وقضيت عدة ساعات وأنا أغوص في أعماق هذا التاريخ الحضاري الممتد، الذي يبعث في النفس عدة قيم رفيعة ومهمة، حيث لمع في خاطري أن هذا المتحف هو في حقيقته تفسير حي مجسد للقرآن الكريم وسنن النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وكيف جعله المسلمون محورا لحضارتهم، فانطلقوا منه، واحتكموا إليه، وفهموا إشاراته ولمحاته، وتغلغلت في عقولهم، فارتوت طبائعهم بمعاني الحياة والإحياء والجمال والدقة والإتقان والإبداع والتأنق والزينة والحسن، إلي غير ذلك من المعاني الكامنة، التي ظهرت من خلال المقتنيات النفيسة الموجودة في المتحف، مما يعد بحق وثيقة تاريخية، وشهادة إدانة عملية لتيارات التطرف من الإخوان إلي داعش، وأن المسلمين عبر تاريخهم أحبوا الحياة، وعشقوا الجمال، ومزجوا ذكر الله تعالي بكل الصنائع والحرف التي قاموا بها، فجاءت أعمالهم تضج بالحياة والإتقان، وتملأ الأعين جمالا، وتعرج بالفكر في معارج رفيعة من الإنسانية، بخلاف ما ترتكبه داعش من تدمير الآثار والمعابد والمتاحف في شمال العراق وسوريا، وبخلاف من نادت به عقول مريضة عندنا هنا من تدمير الهرم الأكبر مثلا أو تدمير تمثال أبي الهول.

إن العقلية الكامنة وراء كل قطعة من تحف متحف الفن الإسلامي هي حائط الصد أمام عقلية التكفير والعنف والخراب والصراع، والظلام المخيم في عقلية التطرف مصيره الزوال طال الزمن أو قصر، لأنه غير قابل للبقاء، وغير منسجم مع الكون والحياة، وسوف تشق الحياة طريقها، وتأبي إلا أن تكون حافلة بالبهجة والجمال.

امتدت بنا الجولة من قاعة إلي قاعة، وخاطري يزداد اندهاشا من دقة أعمال النحت والزخرفة والتعشيبات والنقوش والرسوم، الموجودة علي مقتنيات المتحف من محاريب وأعمدة وأسقف للمنازل، ومنحوتات نحاسية أو فضية أو ذهبية، أو شمعدانات وثريات، أو مناضد وكراسي للمصاحف، أو منابر ومشربيات، فضلا عن قاعة مقتنيات الطب، وقاعة مقتنيات العلوم والفلك، إلي غير ذلك مما لا يمكن الإحاطة به.

إن هذا المتحف الفريد يشتمل علي مائة ألف قطعة، المعروض منها نحو خمسة آلاف، وهو أكبر متحف للفنون الإسلامية في العالم، من حيث عدد مقتنياته، ومن حيث امتداده الزمني، حيث إن المتحف يقتني قطعا من القرن الأول الهجري وأيام الخليفة الراشد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، مرورا بالعصور العباسية والمملوكية والعثمانية إلي العصر الحديث، ومن حيث نطاقه الجغرافي، حيث يقتني قطعا من الهند وإيران والجزيرة العربية والشام والغرب الإفريقي، وبهذا يتقدم هذا المتحف في مقتنياته من فنون الحضارة الإسلامية علي متاحف كبري مثل متروبوليتان في نيويورك، أو متحف اللوفر في باريس، أو متحف توب كابي في تركيا، أو غير ذلك من متاحف العالم، مما يضمن لنا أن هذا المتحف معبر تعبيرا دقيقا وأمينا زمانا ومكانا عن عقلية المسلمين وطريقة تفكيرهم من خلال آثارهم التي صنعتها أيديهم بكل إتقان وتأنق.

إن من وراء هذه القطع والتحف إنسانا مسلما ماهرا ومتقنا ومبدعا، ارتوي بالقرآن الكريم، وفهم مقاصده الرفيعة، وصبر علي إتقان هذه الفنون، وبرع في تنفيذها، وامتلأ عقله وفكره بالجمال، في أدق تفاصيل الحياة، واتسع أفقه ليتماهي مع الكون، ويمتزج به، ويقلد جمالياته، وأنا شخصيا لو أردت في يوم من الأيام أن أشرح الإسلام لما استطعت أن أعبر عنه بتعبير أعمق ولا أفضل ولا أرقي مما يصنعه متحف الفن الإسلامي.

وما زلت أدعو وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات وبقية شرائح المجتمع من الأسر والكتاب والمفكرين إلي إطلاق رحلات وزيارات لهذا المتحف الرائع، وأن يستمعوا إلي شرح القائمين عليه لما وراء كل قطعة فيه من نفس مبدعة عاشقة للجمال، ذاكرة لله، وعقل منير لا يتوقف عن الإبداع، وأدعو أيضا إلي أن نكثف الدعاية الإلكترونية علي صفحات السوشيال ميديا لهذا المتحف بعدد من اللغات، وأن نقيم في رحابه ندوات منتظمة، وأمسيات ثقافية منتظمة، حتي تمتلئ النفوس مرة أخري ثقة في الذات، وثقة في أوطاننا وبلادنا، وأنها قادرة علي أن تجتاز أزماتها، وأن تستأنف صناعة الحضارة من جديد.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف