الأهرام
ابراهيم فتحى
قراءة فى أشعار سيد حجاب
جرت العادة على أن توصف أشعار سيد حجاب أول ما توصف بأنها أشعار بالعامية المصرية، ومنذ البداية لم تكن أشعاره عامية بمعنى سطحية أو سوقية، ولا مصرية بمعنى مسرفة فى استعمال العادات اللغوية المحلية وغرائبها، فبعض أنواع العامية كانت أقل انتماء إلى عامة الشعب العربى فى مصر، أما سيد حجاب، مع قلة متوهجة الموهبة والوعى من الشعراء المصريين، فقد قدموا اسهامًا مصريًا متميزًا فى تطوير القصيدة العربية، فكلمة العامية عنده وعندهم تعنى الطابع الشعبى بحيويته ومرونته وإثراء القاموس الشعرى بمفردات وإيقاعات الكلام وتراكيبه الحية فى الوجدان وعلى الألسنة، وليست العربية الفصحى مرادفة للميت والمهجور.

أما الأداء اللغوى عند سيد حجاب فهو حس بالطزاجة والجدة، وكلماته على مستوى المعجم استعادت للشعر التصاقه بالجذور الحية للتجربة وشاركت فى علاج اغتراب اللغة، فهى لغة ثرية بالألفاظ المتنوعة الحسية الجزئية، كلماتها تعبير تلقائى عن حاضر مباشر وعاميتها ناشئة عن امتلائها بالنسيج الملموس للخبرة الفعلية والعصير المتدفق للحياة وتفرض على عالم الفعل والانفعال اصطفاء وبناء وتحويلاً ثم طرازًا وإيقاعًا لتجعل تلقى الواقع اكتشافًا متمايز المعالم بدلاً من قاموس يجعل المتلقين أسرى متخبطين فى كتلة غائمة وإطارها المفروض، إنها عامية ذات هالة شعبية، درامية حسية ألفاظها عينية فوارة ملموسة وهى دم القصائد وطينها وعرقها، كلمات أوفر صحة وعافية وليست منتفخة بالهواء أو المداد، بل تكاد تكون أشياء وأفعالاً، ويقترب هذا الواقع اللغوى بسكان من الكلمات والعلاقات بينها، من أن يكون نموذجًا لعالم قائم بذاته، قد يكون بديلا لعالم السيطرة والقمع. فعالم العلاقات التجارية اللاشخصية ولغة معاملاته وصفاته تقابلها الحيوية الدسمة للغة الشعرية، لغة معانقة الفعل والحلم.

ويجعلنا شعر سيد حجاب أقرب لفهم للغة لا يضعها خارج التغيير التاريخى أو فاعلية الحياة الاجتماعية المعاصرة ولا يخنقها فى نسق متجمد، فعاميته حضور اجتماعى إبداعى يثرى اللغة ويطرح للمناقشة الرأى الشائع القائل بأن الشعر يتألف من كلمات، نجد فى شعره كلمات كأنها الخرز أو الدرر منتظم فى خيط المعنى لتنقل أفكارًا أو انفعالات جاهزة، وليس البناء الشعرى بمستوياته المختلفة عنده معتمدًا كل الاعتماد على تتابع الكلمات المفردة كما هى فى الاستعمال المعروف «العامي». وما أكثر ما قيل من أن ترتيب الكلمات ليس خلقًا شعريًا بقدر أكبر من ترتيب الصحون على مائدة أو الملابس المغسولة على حبل، فما يخلقه الشاعر ليس التعاقب اللفظى المنتظم، بل يخلق الشاعر عالمًا حيًا متكاملاً، وليست الكلمات إلا المواد التى يصنع الشاعر ابتداء منها عناصره الشعرية الحقة، كما أن الاستجابة السليمة للقصيدة ليست استجابة لمؤثرات لفظية ضئيلة تتراكم تدريجيًا أو ابتعاثًا بواسطة هذه المؤثرات لذكريات وتداعيات ورغبات لا شعورية، بل استجابة لتجربة متخيلة ذات اتساق متكامل لحضور عالم رمزى للحياة الإنسانية وراء الكلمات وما تثيره من الأفكار والانفعالات.

لا تعبر قصائد سيد حجاب عن الوعى العامى للصيادين ولا للفلاحين وفقراء أهل المدن ولن نجد لديه صورتهم عن العالم ومكانهم فيه ولا تحيزاتهم وأذواقهم وتخيلاتهم عن حاجاتهم ومشاعرهم وميولهم ومعتقداتهم، وإن حفلت القصائد بتناول حياتهم والتعاطف معهم، ولكن قصائده تشكل مستوى آخر لوعيهم لا يقف عند سطح الممارسة اليومية، ولكنه يتعمقها وصولاً إلى جوهرها وجذورها، وما تقترح الأشعار التى تتجاوز تجربة المعايشة المتكيفة عند العامة مع علاقات السيطرة والقهر، وبنية الوجدان الشعبى فى القصائد تحوى علاقات بين وقائع اجتماعية ووقائع وعى ووقائع أدبية. وهى عند سيد حجاب تصورات أساسية توجه الوعى العملى لجماهير الشعب كما تنظم العالم المتخيل للشاعر فى الوقت نفسه وهى تصورات جمعية فائقة للفرد، وتكوينها لا يقف عند حدود الوعى الفعلى للعامة بل يخلق وعيًا ممكنًا فى أقصى درجة من العمق والاتساق. إلا أننا نلتقى بالوعى الفعلى للعامة عند كثير من شعراء العامية حافل بالقصور والزيف والوهم فى الأغنية والزجل وبعض ما يروج باسم الأدب الشعبي، ولكن سيد حجاب يحاول الوصول إلى تصور للوعى الشعبى الممكن فى أعلى مستوى لا يقف عند التلقائية والذيلية، بل يتعداهما إلى الدفاع عن المصالح الكلية للطبقات العاملة الأساسية فى حاضرها ومستقبلها. ومن الملاحظ فى شعر سيد حجاب من حيث الصياغة أن جرس الكلمات ونسيجها الصوتى بارز شديد البروز، وهو نسق مهيمن مؤثر فى المستوى الدلالي، مستوى الفكر والانفعال والإدراك الحسي. ويطبع شعره عند المتلقين المعجبين بنشوة تشبه نشوة التوزيع الموسيقى والرقصة الجماعية، وفى أشعاره تكون جمالية الشكل الشعرى شديدة الانصهار بالوظيفة الاجتماعية والوطنية والديمقراطية.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف