خيرية البشلاوى
رنات .. وداعا.. موكب الراحلين
منذ يومين.. انضم إلي موكب الراحلين الدكتور محمد كامل القليوبي استاذ السيناريو في معهد السينما والمخرج الذي أضاف للسينما التسجيلية أحد أهم تجاربها. وكذلك أسهم بعدد من الأفلام الروائية المهمة بدأها بفيلم "ثلاثة علي الطريق" الذي وضع الفنان محمود عبد العزيز علي طريق النجومية ثم "البحر بيضحك ليه" الذي أهداه إلي جيل الرواد ولأول فيلم مصري كوميدي يحمل نفس العنوان "1928" إلي جانب "طريق آدم" و"اتفرج ياسلام" والمسلسلات "بعد الطوفان" و"والابن الضال" هذا إلي جانب دوره كناقد ومؤلف.
رحل القليوبي يوم الخميس "أول أمس" وقبله بأيام ودعنا الشاعر المبدع سيد حجاب وقبلهما بفترة وجيزة رحل استاذنا احمد الحضري صاحب المشوار الطويل المثمر في مجال الثقافة والبحث والتأليف والترجمة والثقافة الجماهيرية.
وعبر المواقع العديدة التي ترأسها ومنها عميد معهد السينما وجميعات الفيلم ونوادي السينما والمهرجانات ولكل واحد من الثلاثة موقعه علي خريطة الحقل الفني في السينما والتلفزيون والحياة الأدبية والثقافية عموما.. ولكل منهم مكانه المتفرد الذي سوف يظل شاغرا وان بقيت اسهاماته المشهودة والمؤثرة وكل في مجاله.
القليوبي من المخرجين الاكاديميين القلائل الذي حرص عبر افلامه التي يقوم بتأليفها ان يغير من التيار التقليدي الاستهلاكي للسينما التجارية برغم السطوة الهائلة لهذا التيار الذي يحكم قبضته علي العملية الانتاجية. واجتهد من خلال نشاطه ومنها تأسيس مؤسسة "نون" للثقافة والفنون ان يوسع مدارك المهتمين بالفيلم السينمائي وان يرتقي بالذائقة الفنية والوعي السينمائي عبر تنظيم مهرجانات سينمائية أو المساعدة في تنظيمها.
لا شك انه برحيل هؤلاء دفعة واحدة وخلال فترة لا تتجاوز أياما يمثل خسارة فادحة ويترك فراغا لا يقتصر علي الغياب بالانتقال إلي الدار الأبدية. وإنما الأكثر قسوة ذلك الاحساس الذي هاجمني شخصيا ان مرحلة من مراحل "العز" بمعني الثراء والامتلاء النفسي والروحي قد ولت وأن مشاعر "المعزة" الحقيقية تفرض نفسها وانت تشاهد شخصيات "قريبة" جدا مهما اختلفت معها إلا أنهم جزء لا يتجزأ من "عائلتك" تشاركهم ميراثهم. واحلامهم لا تتصادم من حيث الجوهر مع احلامك وان اختلفت طرق التعبير عنها وانهم بما يمثلونه شخصيا وقيميا وانسانيا خيوط بارزة في نسيج تكوينك العقلي والوجداني. تلتقيهم بعد غياب طال أو قصر تغمرك الألفة وكأنك عثرت علي جزء من كيانك الشخصي وزمانك الذي عشته.. ولا يوجد شيء أقسي من غياب رفقاء الطريق. وخلو مقاعدهم في الصالات والقاعات وأصواتهم أمام الميكروفونات في المحافل والمهرجانات وما أقسي مشاعر "الغربة" وانت تتابع "الغروب" بغياب من اعتدت حضورهم.
هذا الموكب الجليل للراحلين الأعزاء يثير طوفان من الحزن وانت تقرأ نبأ تسبقه جملة "بعد صراع مع المرض" وهو مرض لعين والمؤلم أنه أصاب الثلاثة حتي اسكنهم القبور حينئذ تستحضر بخيالك حجم الألم الذي عصف بحلاوة ما صنعوه وانجزوه وحلاوة ما حققوه للناس وما اضافوه لحياتهم.. لقد انروا بالفعل دنياهم وأثروا في محيطهم ومن ارتبطوا بهم وها هم يرحلون فاللهم ارحمهم رحمة واسعة وجازيهم بالفردوس الأعلي.
لقد كان القليوبي انسانا يمتلك روحا ساخرة وشحنات انسانية راقية يمنحها لشخوصه التي يتفهم دوافعهم واحباطاتهم واحزانهم. يتعاطف معهم بوعي ويجعل منهم وسطاء له يشيعون البهجة رغم اثقالهم الحياتية والقدرية ولأفلامه نكهة خاصة تكشف عن وعيه السياسي وادراكه لطبيعة تجاربهم وللسياق الاجتماعي الذي يتحركون في إطاره.
لا شيء يعلو علي إرادة الله ولكل أجل كتاب.. هذا كله صحيح. ولكن للحياة حلاوتها وطلاوتها وللرحيل والفراق آلام طويله المفعول.. فاللهم صبرا.