فيتو
د / احمد سالم
أوكازيون الهجوم على الأزهر
نطالع بين الفينة والأخرى، هجومًا شرسًا من البعض ضد الأزهر ورجاله، ووصل الحد بهؤلاء إلى النيل من جميع شيوخ الأزهر على مر الزمان فبطروا الحق، وغمصوا سيرتهم العطرة وجهودهم المشكورة، ولا أدرى لماذا لم ينتفض أمثال هؤلاء لمعالجة القضايا المعضلة التي يئن منها الوطن، بدلًا من تفرغهم للهجوم على الأزهر ومناهجه وتراثه، فاستنكروا جهوده، وجحدوا دوره الريادي ونجاحاته التي حققها - ولا يزال - على المستوي المحلي والدولي!!


إن الأزهر الشريف الذي تعلمنا منه تنوع الفكر، وقبول الرأي الآخر، لا يحجر فكرًا، ولا يقصف قلمًا، فإنه دائمًا يرحب بالنقد البناء، وليس معنى هذا أن يستغل البعض هذه الحرية ليكيل الاتهامات دون دليل أو برهان، أو أن يتقول على الناس ببهتان، فعند هذا لا بد من نقطة نظام، ولا بد من ضرورة اللجوء للفصل في هذه الاتهامات، احترامًا لدولة الدستور والقانون.

البعض يقول: لماذا لا يتقبل الأزهر- شيخًا وعلماء- النقد؟، ويتساءلون هل شيخ الأزهر إله فوق النقد لا يحق لأي إنسان أن يقول رأيه في أدائه وسلوكه؟

ولهؤلاء نقول: نعم ليس شيخ الأزهر فوق النقد، ومن حق أي إنسان أن يقول رأيه في أدائه وسلوكه، لكن لهذا النقد ضوابط، ولا يصح في أي حال من الأحوال أن يتجرد المنتقد من كل معاني الأدب في النقد؛ مثل أن يدعي واحد أن لقب "الإمام الأكبر" الذي يُمنح لشيخ الأزهر ما هو إلا اسم لا ينطبق على مُسمًّى، لأنه - وغيره - دون ذلك بكثير، من حيث العلم والمعرفة والمكانة والإنتاج الفكري والعلمي.. أو أن يقول آخر: «وما رياسة المشيخة في بلادنا مصر إلا منحة، تحولت إلى وظيفةٍ في الحكومة بدرجة رئيس وزراء، فمنذ الاحتلال العثماني لمصر، والأزهر كان نائبًا ومُمثِّلا للوالي في مصر وما جاورها من بلدان».. فهل هذا يعدُّ نقدًا أم أنه تَعَدٍّ صارخٌ على مقام شيخ الأزهر الشريف؟!! وأنى للقائلين بهذا أن يحيطوا بعلم شيخ الأزهر ليتهموه بهذا؟

ولهؤلاء أقول إن تولي مشيخة الأزهر محنة وابتلاء، ومنذ متى كان الأزهر نائبًا وممثلًا للوالي في مصر؟!!؛ أليس هذا جهلًا بحقائق التاريخ، وتزييفًا للمواقف المشرفة لرجال الأزهر؟، فقد ذكر الجبرتي في أحداث سنة 1209هـ/1795م، أن أمراء المماليك اعتدوا على بعض فلاحي مدينة بلبيس فحضر وفدٌ منهم إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي وكان شيخا للأزهر وقتها.

وقدموا شكواهم له ليرفع عنهم الظلم، فغضب وتوجه إلى الأزهر وجمع المشايخ، وأغلقوا أبواب الجامع، وأمروا الناس بترك الأسواق والمتاجر فاستسلم مراد بك ورد ما اغتصبه من أموال، وأرضى نفوس المظلومين؛ لكن العلماء طالبوا بوضع نظام يمنع الظلم ويرد العدوان، واجتمع الأمراء مع العلماء، وكان من بينهم الشيخ السادات، والسيد عمر مكرم، والشيخ الشرقاوي، والشيخ البكري، والشيخ الأمير، وأعلن الظالمون أنهم تابوا والتزموا بما اشترطه عليهم العلماء، وأعلنوا أنهم سيبطلون المظالم والضرائب والكف عن سلب أموال الناس والالتزام بإرسال صرة مال أوقاف الحرمين الشريفين والعوائد المقررة إليهم وكانوا ينهبونها، وكان قاضي القضاة حاضرًا، فكتب على الأمراء وثيقة أمضاها الوالي العثماني وإبراهيم بك ومراد بك شيخا البلد.

فهل كان الأزهر بمواقفه المحمودة التي خلدها التاريخ ممثلًا ونائبًا للوالي أم حكمًا عدلًا منصفًا مجاهرًا بالحق لا يخشى فيه لومة لائم؟

إن جميع المتابعين للهجوم الممنهج على الأزهر يعلمون جيدًا أسباب هذا التعدي السافر على الأزهر الشريف، وخصوصًا في هذا التوقيت، فأوكازيون الهجوم على الأزهر مفتوح لينتفع منه كل مأجور من المدعين بأن الأزهر ضد الثقافة والمثقفين وأنه يعاني من تخلف شديد، ومجمع البحوث الإسلامية لا يمكن له أن يعمل يومًا ما مع أهل الكتابة والإبداع، إذ اعتاد تكفير عددٍ كبيرٍ من المفكرين والشعراء.

وأحيل هؤلاء إلى وثائق الأزهر التي صدرت بحضور الكتاب والمثقفين، وإلى اجتماعات فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بالأدباء والصحفيين بمختلف أطيافهم، وأن شهادتهم سجلتها الصحف وقتها بأن الجميع يعترف بدور الأزهر القيادي في بلورة الفكر الإسلامي الوسطى السديد، وأن المجتمعين يؤكدون أهميته واعتباره المنارة الهادية التي يُستضاء بها، ويحتكم إليها في تحديد علاقة الدولة بالدين وبيان أسس السياسة الشرعية الصحيحة التي ينبغي انتهاجها؛ ارتكازًا على خبرته المتراكمة، التي تتمثل في البعد الفقهي في إحياء علوم الدين وتجديدها، طبقًا لمذهب أهل السنة والجماعة الذي يجمع بين العقل والنقل ويكشف عن قواعد التأويل المراعية للنصوص الشرعية، والبعد التاريخي لدور الأزهر المجيد في قيادة الحركة الوطنية نحو الحرية والاستقلال، وإحياء مختلف العلوم الطبيعية والآداب والفنون بتنوعاتها الخصبة، والبعد العملي في قيادة حركة المجتمع وتشكيل قادة الرأي في الحياة المصرية.

ألم يكن الأزهر هو الملاذ الآمن الذي لجأ إليه الكُتَّاب إبان ثورة يناير وما تبعها من أحداث، ألم يطلبوا اللجوء إلى شيخ الأزهر عندما استشعروا الخطر وتيقنوا أن البلد أصبحت في مهب الريح. ما لكم كيف تحكمون!!!

ومنذ متى والأزهر كفر أحدًا أو صادر قلمًا، طالما أنه منضبط، ولا يمس أصول الدين الراسخة، وليت هؤلاء يخرجون لنا مرسومًا صادرًا عن مجمع البحوث بالأزهر يحكم فيه بتكفير كاتب أو يوصي بنفي شاعر!

إن الأزهر الشريف الذي اتهمه هؤلاء بأنه يعاني من تخلف شديد هو الذي حمل راية العلم وطاف به أقطار الأرض، وصار اسمه مقرونًا بالنسب الصلبي لأبنائه فيقال: فلان بن فلان الأزهري، وهذه ميزة امتاز بها أبناء الأزهر خصوصًا بين الوافدين، فأصبحت النسبة إليه من درجة الاعتزاز بالنسب.

إن أبناء الأزهر لا يقبلون من أحد أيًّا كان، أن يتهجم على أزهرهم الشريف بهذا الأسلوب العقيم الفج، فيهرف بما لا يعرف لا لشيء إلا لنصرة الباطل، وإشاعة الفوضى، وطمس الحق.

فكم من عائب قولًا صحيحًا وآفته من الفهم السقيم...

فاتقوا الله في الأزهر وقدروه حق قدره، وإن جهلتم فاقرأوا التاريخ جيدًا لتعلموا مواقفه المحمودة، وليعلم كل قزم مغمور يظن أنه بهذه الأفعال سيطفو على السطح، أو أنه سيبرق اسمه مثل كبار الكُتاب أن الأزهر أكبر من أن يصغي سمعه لهذه الترهات، وليت هؤلاء الدخلاء على مهنة الصحافة أن يتعلموا من أكابر الصحفيين ممن اعتلوا منابر الريادة المهنية باستحقاق وجدارة، فحفروا أسماءهم بأحرف من نور، وأفنوا أعمارهم في خدمة الوطن، وبنائه والنهوض به، فاعتبروا يا أولى الأبصار!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف