المصريون
جمال سلطان
كرة القدم : صناعة السعادة وصناعة الوهم !
تعيش مصر هذه الساعات التي أكتب فيها تلك السطور مشاعر فواره متعلقة كلها بمباراة كرة القدم المقرر إقامتها الليلة بين المنتخب الوطني المصري ونظيره الكاميروني في نهائي بطولة أفريقيا ، قلوب الملايين هنا تنتظر الفرحة ، تنتظر الفوز ولا شيء غيره ، ولا تحتاج إلى معاناة أو تركيز لكي تدرك أن الشوق لفوز الفريق المصري يجمع كل المختلفين ، سياسيا ودينيا وثقافيا وطبقيا ، وهي من المحطات النادرة التي يصعب أن تفرق فيها بين أنصار السيسي ومعارضيه ، وهذا من سحر تلك اللعبة العجيبة ، التي تتعلق بها قلوب ملايين البشر دون أن تفهم سر ذلك التعلق ، وأحيانا يغير الشخص مذهبه وثقافته وربما دينه ، ولكنه لا يغير ولاءه الكروي لهذا الفريق أو ذاك ، هذا مدهش جدا . كرة القدم هي صانعة السعادة للشعوب بكل تأكيد ، في العالم الأول كما في العالم الثالث ، فقراء أفريقيا ومعدموها تجدهم ينسون آلامهم وأوجاعهم وأمراضهم إذا نجح فريقهم الكروي في تحقيق نصر رياضي مهم ، ومع الأسف تدرك كثير من النظم السياسية الفاسدة والديكتاتورية في العالم الثالث هذه الحقيقة الراسخة ، فتستغلها أبشع استغلال ، وتستخدم الانتصارات الكروية كمخدر للشعوب ، وفرصة للهرب من استحقاقات سياسية أو اقتصادية شديدة الأهمية للبلد وأهله ، بل وتستغل للتغطية على الفساد وصناعة وهم الإنجاز ، وكنا في عصر مبارك نشهد أمثلة من ذلك كثيرة ، ولذلك كان مبارك وأولاده يحرصون على رعاية لاعبي الكرة وتدليلهم ، وخاصة في الفريق القومي ، ويصاحبونهم ويسامرونهم ويقضون حاجاتهم ومطالبهم أكثر كثيرا مما يحلم نائب الشعب في البرلمان مثلا ، ووصل الهوس إلى حد تعريض أمن الوطن للخطر في مباريات كرة دولية ، مثلما حدث في مباراة مع الجزائر الشقيقة ، ونشر في الإعلام الرسمي كلام سفيه وبالغ الانحطاط تجاه الأشقاء في الجزائر لا يصلح إلا في "غرز الحشاشين" وليس في شاشات التليفزيون الرسمي للدولة . كرة القدم ، مثلها مثل أنشطة ترفيهية كثيرة ، يتحدد دورها وإيجابيتها أو سلبيتها بالمنظومة الاجتماعية السياسية والاقتصادية والثقافية ، ففي المجتمعات المتقدمة والمنتجة والفاعلة هي صناعة للفرحة والسعادة وتجديد المشاعر وتنشيط الحياة ، وهي تحقق توازنا للمجتمع ، بين الجدل والهزل ، بين البهجة والعطاء ، ولا تؤثر على النجاح الشامل في مختلف أوجه الحياة ، أما في المجتمعات "المتخلفة" أو دول العالم الثالث فكرة القدم تصنع السعادة أيضا ولكنها تصنع الوهم كذلك ، وتتحول إلى مخدر للشعوب ومعطل للطاقات ، لأنها تملأ المشاعر بأوهام التفوق والنجاح والإنجاز في الوقت الذي يحاصرك الفشل في كل مجال ، والتخلف في سباق التحضر ، والانحطاط الشامل في مستويات الصحة والتعليم والبنية الأساسية ، وانتشار البطالة وبؤس الحياة واتساع نطاق الفساد . كرة القدم موهبة بالأساس ، تصقلها أدوات معاونة في التدريب ، وهي يمكن أن تتفوق في مجتمعات متخلفة أو مجتمعات متقدمة على حد سواء ، وقد كانت البرازيل في الستينات والسبعينات ، تصنف ضمن العالم الثالث المتخلف والديكتاتوري والفقير والبائس ، بينما فريقها الكروي يكتسح مسابقات كأس العام ويتربع على قمته ، في حين أن دولة عظمى مثل الولايات المتحدة تحبو في عالم الكرة ، وفي أفريقيا هناك دول صغيرة وبائسة وتعاني الفقر والتخلف بينما فرقها الكروية تحصد البطولات ، فلا يمكن بأي منطق اعتبار النجاح في لعبة مؤشرا على إنجازات أو تطور مجتمع أو نهضته . كل الأمنيات الطيبة لفريقنا الوطني بالفوز هذه الليلة ، فالناس في بلادي في حاجة ماسة إلى السعادة بعد أن جفت روافدها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، الناس بحاجة إلى الفرح ، ومن الصعب أن تجمع الأيام علينا نكد السلطة ونكد الكرة !

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف