جمال سلطان
بيان الأزهر وقيمته ورمزيته وأهمية الفتوى الجماعية
قطع الأزهر الشريف الخلاف في مسألة الطلاق الشفهي ، ورفض مقترح رئيس الجمهورية الذي كان يريد إلغاء الطلاق الشفهي أو عدم الاعتراف به ما لم يكن موثقا ومكتوبا وبحضور شهود ، في سابقة لم يعرفها تاريخ التشريع الإسلامي منذ بعثة النبي ، والحقيقة أن الأمر كان غريبا من أكثر من وجه سبقت الإشارة إليهم في مقال سابق ، وخاصة مسألة تدخل رئيس الجمهورية في مسألة فقهية دينية ، وفرض رأي محرج على المؤسسات الدينية مع الإشارات المتكررة بأن الأزهر "يتعبه" ، وفي مثل هذه الأحوال لا تخلو الظروف من فقهاء سوء أو علماء زور يتزلفون لصاحب السلطة بالموافقة على كلامه والتصديق على رأيه ، ابتغاء قربى أو مكرمة أو مكانة أو منصب أعلى ، ويتلاعبون بالنصوص ويلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ، كما كان يفعل سلفهم السيئ من الأحبار والرهبان ، وهو ما ينشر الاضطراب والفوضى في الحياة الدينية ويوقع الناس في حيرة من أمرهم ، وهو ما نبه إليه الأزهر في بيانه وحذر هؤلاء ـ بلغة رقيقة ـ من أن يضللوا الناس ويدفعونهم للعيش في الحرام . بيان الأزهر أمس كان نموذجيا في اعتداله وسمو لغته ، وفي شجاعته أيضا ، فهو قرر بطلان الفكرة التي قدمت من خلال الرئيس ، دون إشارة إليه ، وقال : (انطلاقًا من المسؤوليَّة الشرعيَّة للأزهر الشريف ومكانته في وجدان الأمَّة المصريَّة التي أكَّدها الدستور المصري، وأداءً للأمانة التي يحملُها على عاتقِه في الحِفاظ على الإسلام وشريعته السمحة على مدى أكثر من ألف عام من الزمن - عقدت هيئة كبار العلماء عدَّة اجتماعاتٍ خلالَ الشهور الماضية لبحثِ عدد من القضايا الاجتماعية المعاصرة؛ ومنها حكم الطلاق الشفويِّ، وأثره الشرعي، وقد أعدَّت اللجان المختصَّة تقاريرها العلمية المختلفة، وقدَّمتها إلى مجلس هيئة كبار العلماء الذي انعقد اليوم الأحد 8 من جمادى الأولى 1438هـ الموافق 5 من فبراير 2017م، وانتهى الرأي في هذا المجلس بإجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم وتخصُّصاتهم إلى القرارات الشرعية التالية: أولاً: وقوع الطلاق الشفوي المستوفي أركانَه وشروطَه، والصادر من الزوج عن أهلية وإرادة واعية وبالألفاظ الشرعية الدالة على الطلاق، وهو ما استقرَّ عليه المسلمون منذ عهد النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحتى يوم الناس هذا، دونَ اشتراط إشهاد أو توثيق) . هنا قرر الأزهر الفتوى الشرعية في صلبها ، وهو أن الطلاق يقع وتصبح رابطة الزواج وحلاله منبتة بين الرجل وزوجته ، لكنه التفت إلى واقع الناس وفساد بعض الضمائر فأكد على ضرورة إلزام المطلق بعد ذلك بتوثيق الطلاق حتى تتحدد الحقوق الشرعية لمطلقته وأبنائها الذين في ولايتها ، فقال : (ثانيًا: على المطلِّق أن يُبادر في توثيق هذا الطلاق فَوْرَ وقوعِه؛ حِفاظًا على حُقوقِ المطلَّقة وأبنائها، ومن حقِّ وليِّ الأمر شرعًا أن يَتَّخِذَ ما يلزمُ من إجراءاتٍ لسَنِّ تشريعٍ يَكفُل توقيع عقوبةً تعزيريَّةً رادعةً على مَن امتنع عن التوثيق أو ماطَل فيه؛ لأنَّ في ذلك إضرارًا بالمرأة وبحقوقها الشرعيَّة) . وفي الحقيقة هذا معمول به في القوانين الحالية وإن كان المطلوب تشديدها بما يمنع التلاعب ، ثم التفتت هيئة كبار العلماء إلى نظر القضية من واقعها الاجتماعي ، فأكدت على أن احصاءات الطلاق المعلن عنها كلها تقريبا موثقة ومثبتة لدى مأذون أو لدى قاضي ، وبالتالي فإذا أردنا أن نعالج الظاهرة فلنبحث عن أسبابها الحقيقية وليس المفتعلة ، من مثل انتشار المخدرات وضعف الوازع الديني وسوء الأحوال المعيشية ، وكان لافتا في بيان الأزهر تلك الإشارة "الذهبية" التي وضعتها في سياق لطيف لتحمل السلطة والحكومة المسئولية عن هذا الأمر بإصلاح الأحوال الاقتصادية والمعيشية أولا إذا كانوا يريدون تقليل الطلاق ، فيقول البيان ما نصه : (فليس الناس الآن في حاجةٍ إلى تغيير أحكام الطلاق، بقدر ما هم في حاجةٍ إلى البحث عن وسائل تُيسِّرُ سُبُلَ العيش الكريم) ، فهنا وضع الأزهر القضية في نصابها الصحيح ، فأزمة انتشار الطلاق ليست بسبب أحكام الطلاق وإنما بسبب الفقر والمعاناة وسوء الاقتصاد وانتشار الفساد وتردي الأحوال المعيشية ، وتلك مسئولية القيادة السياسية والحكومة والوزارات المختصة التي تتهرب منها باختراع "شماعة" تعديل أحكام الطلاق . وبعد أن وضع البيان الجميع أمام مسئولياته ودوره في التنوير والتثقيف ، من الإعلام إلى الفن الهادف إلى التعليم ، التفتت إلى "النكير" على فقهاء الزور الذين يبيعون دينهم ودين الناس بعرض من الدنيا قليل ، وقال البيان : (تُناشِد الهيئةُ جميعَ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الحذَر من الفتاوى الشاذَّة التي يُنادي بها البعض، حتى لو كان بعضُهم من المنتسِبين للأزهر؛ لأنَّ الأخذَ بهذه الفتاوى الشاذَّة يُوقِع المسلمين في الحُرمة ... وتتمنَّى هيئةُ كبار العلماء على مَن "يتساهلون" في فتاوى الطلاق، على خلاف إجماع الفقهاء وما استقرَّ عليه المسلمون، أن يُؤدُّوا الأمانةَ في تَبلِيغ أحكامِ الشريعةِ على وَجهِها الصحيح، وأن يَصرِفوا جُهودَهم إلى ما ينفعُ الناس ويُسهم في حل مشكلاتهم على أرض الواقع) . البيان في صيغته ومادته العلمية والاجتماعية يعبر عن هيئة وافرة الاحترام والاعتدال وتقدير المسئولية ، ولا ينبغي النظر إلى البيان بوصفه منازلة سياسية مع الرئيس أو السلطة التنفيذية ، أو تحدي لهم ، حتى وإن بدا أنه رفض لأفكار القيادة وتحذير ديني لها ، لكن الواضح أن البيان كان معنيا ببيان حكم الله في المسألة ، بغض النظر عن موافقته أو مخالفته لرأي الرئيس أو السلطة ، غير أن صدور هذا البيان في تلك الظروف والأحوال التي تعيشها البلاد ، وتحمل مساحات واسعة من النفاق السياسي وممالأة القيادة السياسية بالحق والباطل سواء ، وتضيق مساحة الحريات بصورة متنامية ، وانتشار الخوف ، حيث يصبح التعبير على الرأي المخالف مجازفة ومخاطرة ، فإن البيان يكون موقفا شجاعا للأزهر وهيئة كبار علمائه ، ويعزز من مكانته في الضمير العام ، ومن استقلاليته ، وهذا كله مكسب لمصر الوطن والدولة والتاريخ والمستقبل أيضا ، حتى وإن خسر السيسي أو الحكومة الحالية ، لأن الأزهر قيمة أهم وأعلى وأسبق وأبقى من السيسي ومن سبقه ومن يليه ، فهو المرجعية المؤسسية التاريخية الوحيدة الباقية لتقويم الانحرافات الدينية ، سواء في جانب التطرف أو جانب الاستهتار ، وهو السند الأهم للدولة والمجتمع في محاصرة الإرهاب فكريا ودينيا ، وأي هدم للأزهر أو إضعاف لدوره أو خصم من استقلاليته سيكون دعما للإرهاب والتطرف ونشرا للفوضى الدينية في المجتمع بما يستحيل على أي سلطة احتواؤها أو وقفها . الأزهر بحاجة إلى تضامن المجتمع معه ، بكافة شرائحه وتياراته الفكرية والسياسية ، حتى وإن وقع الخلاف معه في موقف أو قضية ، والخلاف وارد للجميع مع الجميع ، نحن بحاجة إلى مؤسسات مستقلة وقادرة على أن تقول الحقيقة بشجاعة مهما كانت مخالفة لصاحب السلطة والسلطان ، والأزهر ليس مؤسسة للأحزاب أو الجماعات الإسلامية ، بل هو مؤسسة داعمة للجميع ، وملك للجميع ، أحزابا وقوى مدنية وحكومة ومعارضة على حد سواء ، وحتى لأفراد الشعب العاديين ، وإن ساءك منه موقف اليوم فسيسرك أضعافه غدا ، فعلى الجميع أن يتعامل بمسئولية ووعي بالمصلحة العامة عندما يقف أمام دور هذا الصرح الديني الشامخ .