لا يبدو تغيير الوزراء وحده مهما، فالأهم هو تغيير السياسة، وغياب السياسة يبدو ظاهرا حتي في اختيار وتبديل الوزراء، فلا معايير سياسية من أصله، والبحث عن وزير يجري كالبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة، والطريقة التي يتم اتباعها كما هي من زمن المخلوع مبارك، مجرد تقليب في الأرشيف البيروقراطي، أو في دفاتر التنكوقراط المتطلعين، ثم إحالة الأمر برمته إلي أجهزة أمنية ورقابية، وطلب تقارير صلاحية يثبت كثيرا عدم صلاحيتها، وبدليل سقوط وزراء في خية وفضائح الفساد.
وقد يقال لك إن هناك إنجازات، وهذا صحيح، فثمة إنجاز كالإعجاز، يجري في وقت سريع جدا، وبكفاءة لافتة، ويدور غالبا في مجري تجديد البنية الأساسية، كما في شبكات الطرق والمدن ومحطات الطاقة الجديدة، وكلها تتم بهمة وإشراف وإدارة هيئات الجيش، ولا تبدو الحكومة فيها سوي كضيف زائر عند الافتتاحات، ثم إن تكاليفها يجري تدبيرها غالبا من خارج موازنة الحكومة، وبأرقام هائلة، بلغت 1400 مليار جنيه، ومد خيط التوقع، قد يصل بتكلفة المشروعات الكبري إلي مايقارب التريليوني جنيه، كان ممكنا ولا يزال توجيهها إلي سبل أخري، أو توجيه نصفها لبناء مصانع كبري، لو أن هناك سياسة تعطي الأولوية المطلقة للتصنيع الشامل، وبناء اقتصاد إنتاجي، يمتص ملايين البطالة، وينتج سلعا مصنعة تحل محل الواردات، وتضيف طاقة تصدير مهولة تجلب العملات الصعبة.
وغياب التجديد في السياسة هو بيت الداء، والذي يهدد بتحويل الإنجازات إلي مجرد مقاولات متفرقة، قد توفر فرص عمل موقوتة لملايين، لكنها لا توفر فرص عمل دائمة منتجة، تعيد خلق الطبقة العاملة، وتوسع نطاق الطبقة الوسطي المتآكلة، بدلا من التجريف والإفقار الذي استبد ويستبد بالاقتصاد المصري، والعودة لعلاج الداء بالتي كانت هي الداء، وعلي طريقة إعادة تجريب روشتات صندوق النقد الدولي، التي قادتنا فيما مضي إلي خراب مستعجل، ويعودون إليها الآن باسم إصلاح، لايقود سوي إلي الهلاك، وهو ما حدث ويحدث بلا رحمة، فقد انقضت الثلاثة شهور التي وعدوا بعدها باتزان في سعر الصرف، وتوقعوا تراجع الجنون في سعر الدولار، بينما وصل الدولار رسميا الآن إلي حافة العشرين جنيها مصريا، وصار الجنيه يساوي »بصلة» بالمعني الحرفي، وأعلن صندوق النقد عن خيبة توقعاته، وأنه لم يتوقع هلاك الجنيه علي النحو الذي جري، وروج له وزير المالية ومحافظ البنك المركزي، ودون أن يجدوا حسابا ولا عقابا، بل كان العقاب الباتر من نصيب الشعب المصري، ومن نصيب أغلبيته الساحقة بالذات، وبنسبة قد تصل إلي تسعين بالمئة من المصريين، جري إحراقهم بالجملة في أفران الغلاء، وبالأسعار التي تزيد كل يوم وكل ساعة، ونزل الفقراء والطبقات الوسطي إلي ما تحت خط البؤس، وصرنا شعبا من المساكين، لا ينتظرون سوي أن تهوي المزيد من المطارق علي رءوسهم، وأن يهلك ما تبقي من مقدرتهم علي مواصلة بطولة البقاء علي قيد الحياة، فبرنامج الخراب »الإصلاحي» لا يزال في مراحله الأولي، وثمة زيادات جديدة منتظرة متوالية في أسعار الكهرباء والمياه والنقل العام، وفي أسعار البنزين والسولار والمازوت مع خفض مضاف لدعم الطاقة، والزيادات علي عينك ياتاجر في أسعار السلع التموينية، والمحتكرون يتحكمون في أسعار السوق، والدولة ترفع الرايات البيضاء، وكل شئ يتضاعف سعره إلا سعر »البني آدمين»، وأغلبية المصريين تدفع الفواتير من لحمها الحي، ودون أن يتحقق للحكومة شئ من خفض عجز الموازنة أو تخفيف الديون، بل جري العكس بالضبط، وتضاعف عجز الموازنة، وزادت تكاليف خدمة الديون الخارجية إلي أكثر من الضعف، ولم يعد لسياسة الخراب سوي أن تصل لمحطتها الأخيرة، وأن نعود للخصخصة و»المصمصة»، وبيع البنوك وشركات البترول ومحطات الطاقة عبر البورصة، وشراء الأجانب للأسهم برخص التراب.
ولا يصح ـ من منظور وطني ـ أن نواصل سياسة الخراب إلي آخرها، ولا أن ننتظر النجدة الموعودة من عوائد اكتشاف البترول والغاز، فإضافة موارد جديدة لا يفيد مع سياسة تبديد الموارد، ولابد من إعادة نظر شاملة فيما يجري، توقف ما تبقي من برنامج إلغاء الدعم، وتوقف سياسة التجبر علي الفقراء والطبقات الوسطي، وتستعيد الموارد الضائعة عبر صنابير »المال السايب»، وتجتث الفساد الذي يستنزف 200 مليار جنيه سنويا، وتنهي التهرب الضريبي الذي يهدر400 مليار سنويا باعتراف رسمي، وتفرض الضرائب التصاعدية المستحقة علي مليارديرات النهب العام.