الأهرام
عبد المنعم سعيد
التفكير فى المسألة الإنتاجية المصرية ؟!
وضع السياسات العامة دائما بالغ التعقيد إذا ما كان الغرض منها تحقيق النفع العام، والأخذ بيد المجتمع على طريق التقدم خطوة بعد خطوة.
ويصير الأمر أكثر تعقيدا فى دولة مثل مصر المدمن للحالة المركزية، والتى يصبح فيها على صانع القرار والعاملين معه التفكير فى الدولة بكل مواطنيها ـ أكثر من 92 مليونا ـ وعلى انتشار مساحتها ـ مليون كيلومتر مربع، وبأساليب تحقق المساواة والعدالة بين الجميع. النتيجة كما نعلم ليست بمثل هذه المثالية، فالتفاوت كبير بين شمال مصر وجنوبها، كما أن الجهد الحكومى لا يتوزع بما تصبو إليه الحكومة، وإلا لكان تعمير سيناء وساحلى البحر الأبيض والآخر الأحمر قد تم منذ وقت بعيد. الصورة بهذه الطريقة، على أى حال، بالغة العمومية، كما أنها غير مفيدة لا لصانع القرار، ولا للتفكير الوطنى من مصادر عدة فى مجلس النواب أو غيره من المجالس. نحن نحتاج لطريقة أخرى فى التفكير، وحتى نفعل ذلك فإننا نحتاج لحزمة أخرى وجديدة من المعلومات.

لفت نظرى فى واحدة من المقالات التى علقت على نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة، والتى كتبها مارك مورو وسيفان ليو الباحثان فى مؤسسة بروكينجز (فازت بالمكانة الأولى بين مراكز البحوث فى العالم فى عام 2016)، أنهما لفتا النظر إلى تقسيم جديد لأمريكا بين الأمريكيين أصحاب الإنتاجية العالية، وهؤلاء من أصحاب الإنتاجية المنخفضة. الإنتاجية هنا محسوبة على أساس النسبة من الناتج المحلى الإجمالي؛ وهنا فقد وجد الباحثان أن أقل من 500 مقاطعة (الولايات المتحدة مقسمة إلى ولايات وهذه مقسمة إلى مقاطعات) انتخبوا هيلارى كلينتون يسهمون بنسبة 64% من الناتج المحلى الأمريكي، وأكثر من 2600 مقاطعة انتخبت دونالد ترامب يقدمون 36% منه فقط. وبغض النظر عن نتيجة الإنتخابات، وعما إذا كان الأقل إنتاجية فاز على الأعلى إنتاجية، فإن المعلومات التاريخية تقول لنا إن هذه ليست المرة الأولى التى ابتعد فيها التصويت عن الإنتاجية. ففى انتخابات عام 2000 حصد آل جور الفوز فى 659 مقاطعة قدمت 54% من الناتج المحلى الإجمالي، بينما الفائز جورج بوش الابن فقد فاز فى 2397 مقاطعة قدمت 46% من الناتج المحلي.

ولكن نتائج الانتخابات ومدى ما تقدمه من دروس ليست مقصدنا، ولا نعرف إلى أى حد يمكنها أن تكون مفيدة لنا فى مصر. ما يهمنا فقط السياسات العامة فى مصر وكيف يمكن تعظيم الفائدة منها بحيث تجعل المنتجين أكثر إنتاجا، أما الأقل إنتاجا أو لا ينتجون على الإطلاق فمن الواجب دفعهم إلى هذه الناحية. البداية فى هذه الحالة أن يكون لدينا الطموح الذى لا يجعلنا نقبل نسبة النمو 4% المنتظرة فى العام المالى الحالي؛ وكذلك لا نقبل أن يمر عامان وأكثر لكى تتحول فكرة «المثلث الذهبى» من كونها فكرة إلى مشروع فى شركة تقوم ببحث الموضوع وتشرف على تطويره. ما نريده لابد أن يكون أكثر من ذلك بكثير، ولكننا لن يكون الأمر فى متناول اليد بمعلومات عن الشمال والجنوب، أو المحافظات فى الوادى أو الأخرى الحدودية. ما نحتاجه هو معلومات عن المنتجين وغير المنتجين، والأعلى إنتاجية والأقل إنتاجية، محسوبا كنسبة من الناتج المحلى الإجمالي، حتى نضع سياسات عامة رشيدة. نعلم أن لدينا معلومات عن التنمية البشرية فى المحافظات (العمر المتوقع عند الميلاد والتعليم ومتوسطات الدخل)، ولكن ما ليس شائعا فهو المتعلق بالإنتاجية والمساهمة فى الناتج المحلى الإجمالى ليس فقط بالمحافظات، وإنما أيضا المراكز. المسألة هنا ليست إضافة أعباء إضافية على الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء وهو الذى يقوم بمجهودات كبيرة لتوفير المعلومات للدولة عن حالها وحالنا. ولكن أن نعطى صانع القرار المعلومات التى تعينه على تفصيل السياسات العامة على قدر الحالة الفعلية لكل مركز أو حتى كل قرية.

فمن المدهش فى دولة عريقة فى مركزيتها مثل مصر، أن معدل انتشار التقدم فى مصر إما أنه بطيء للغاية أو أنه غير موجود على الإطلاق. فمحافظة مثل دمياط المعروفة بإنتاجيتها العالية حتى قيل عنها إنها يابان مصر، لا تنتشر منها حرفة الإنتاج وتقاليده إلى محافظة الشرقية القريبة؛ كما أن محافظة عريقة فى الصناعة مثل الغربية (كانت المحلة الكبرى من أكبر القلاع الصناعية فى مصر) تدهور بها الحال خلال السنوات الأخيرة حتى باتت صداعا مزمنا للحكومة على عكس الحال فى بورسعيد والمنصورة. وقيل فى زمن إن المنيا هى عروس الصعيد، فما الذى جرى للعروس ياترى خلال العقود الأخيرة، وما الذى حدث للفيوم التى كان يأتى منها أنواع خاصة من العنب، والدجاج أيضا تعرف بامتياز «الفيومى»؟. بالطبع فإن هناك مشكلات عامة فى مصر مثل الزيادة السكانية، ولكن هذه هى الأخرى لا يمكن فهمها بعيدا عن الإنتاجية، ومدى المساهمة فى الناتج المحلى الإجمالي، ففى مثل هذه الحالة فإن السياسات العامة للتعامل مع موضوع الزيادة السكانية لابد أن يوجه مع السياسات التنموية لكى يزيد الإنتاج وتنخفض المواليد. فما جرى فى أمريكا كان مؤثرا على الانتخابات وذهب الأقل إنتاجية والأقل قدرة على المنافسة العالمية إلى من يفرض لهم سياسات حمائية تحميهم من المنافسة. ولكن المسألة بالنسبة لنا هى كيف نحشد ونعبئ طاقات قومية من أجل الخروج مما نحن فيه؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف