غنية أم فقيرة؟! والمقصود بالطبع مصر.. هذا هو التساؤل القديم الجديد الذى أصبح محل اختلاف ونقاش واسع منذ أعلن الرئيس السيسى أن مصر دولة فقيرة فى مواردها، لكن ذلك لا ينبغى أن يحول دون مضاعفة جهود المصريين من أجل تحسين أحوال حياتهم، وبصراحة شديدة فإن الإجابة عن هذا التساؤل كثيراً ما يحكمها أو يلونها طبيعة الخيار السياسى لصاحب الرأى، فإذا كان من المعارضة فأغلب الظن أنه سوف يبالغ كثيراً فى تقدير إمكانات مصر التى تقع على مشارف بحرين كبيرين من بحار العالم، وتشكل نقطة الالتقاء بين الشمال والجنوب والشرق والغرب بما يعزز مكانتها اللوجستية كمركز عالمى للتجارة الدولية، وتضم سبع بحيرات، بينها بحيرة السد، أكبر بحيرة فى العالم، ويعيش على أرضها فى هذا الموقع الجغرافى الفريد شعب يظهر معدنه الحقيقى عند الشدائد، واجه الكثير من المحن وحقق إنجازات تاريخية تقرب من المعجزات، فخره التليد أنه أنجز للإنسانية أول حضارة علّمت الإنسان الزراعة والكتابة والدين والفن، ومكّنته من الإلمام بفنون الحكم والعمارة، وأهّلته لتشكيل أول جيش فى العالم لا تزال عقيدته القتالية تخلص فى الدفاع عن الأرض والعرض والكرامة وليس العدوان على الآخرين.
وبالطبع فإن الهدف الأساسى من التركيز على فقر مصر، رغم قدراتها الكبيرة والمتنوعة، هو إظهار ضعف القائمين على الحكم وعدم قدرتهم على استثمار طاقات دولة غنية لم يحسنوا استثمارها، وقد يصل هؤلاء المعارضون فى رأيهم إلى القول بأن مشكلة مصر الحقيقية على طول التاريخ ليس ضعف الإرادة السياسية وعجزها عن استثمار إمكانات مصر الكبيرة التى لا تزال بكراً، ولكنه فساد عريق موغل فى القدم ينهب خيرات مصر أولاً بأول منذ أن أطلق أبوالطيب المتنبى، شاعر العرب، هجاءه الشهير لحاكم مصر، كافور الإخشيدى، لأن نواطير مصر نامت عن ثعالبها وقد بشمن ولم تفنَ العناقيد!.
وإذا كنت من المعسكر الآخر، معسكر المؤيدين، فربما يذهب بك شطط الانحياز إلى حد الإصرار على أن مصر فقيرة فى مواردها الأساسية، وأن مساحة الأرض المنزرعة منذ حكم محمد على لم تزد كثيراً عن المساحة الراهنة، على العكس فقدت مصر أخصب أجزاء أراضيها بسبب زيادة العمران، وأن نصيب كل مصرى من الأرض والمياه قد هبط كثيراً لأن ما كان يخص 5 ملايين نسمة قبل 200 عام فقط يتوزع الآن على ما يقرب من مائة مليون مواطن!، فضلاً عن أن مصر بطبيعتها دولة زراعية وليست دولة صناعية، مشكلتها الأساسية فيض المواليد الجدد الذى رفع حجم السكان فى غضون قرنين إلى مائة مليون نسمة، وأن العيب الأساسى يكمن فى المصريين أنفسهم الذين يستهلكون بأكثر مما ينتجون ويستوردون بأكثر مما يصدرون وينفقون بأكثر مما يكسبون، وأن تصحيح هذه المعادلة يقع على عاتق الشعب قبل الحكومة، لأن ما تفعله الحكومة فى ظل هذا التزايد السكانى الضخم هو نوع من حرث البحر لا ينتج أثراً لأن كثرة المواليد تأكل عائد التنمية أولاً بأول!.
وبالطبع يتغافل هؤلاء عن تجارب مهمة لشعوب عديدة لم تملك بعض ما يملكه المصريون مثل اليابان التى لم تكن تملك شيئاً سوى حجر الخفاف الذى تلقى به أمواج المحيط على سواحلها المقفرة، إضافة إلى دول أخرى عديدة فى جنوب شرق آسيا نجحت فى أن تستثمر على أحسن وجه قدرات إنسانها، وخلقت من العدم دولاً قوية تتصدر الدول الصناعية الكبرى يرتفع مستوى حياة شعوبها إلى مستويات أغنى الدول، بل إن دولاً أخرى عديدة دمرت الحروب قدراتها ومقدراتها لكنها استطاعت أن تعيد بناء نفسها من نقطة الصفر، اعتماداً على جهود أبنائها الذين يقدسون العمل ويحرصون بطبيعتهم على الجودة والإتقان والإبداع، ويستشعرون أنهم موجودون على الأرض من أجل حسن عمارتها، وازعهم الحقيقى رضا النفس وتحقيق الذات وليس الخوف من الرادع والعقاب، خاصة أنهم فى الأغلب أقل شعوب العالم استهلاكاً وأكثرها إنتاجاً، كما هو حال الصين ومعظم الشعوب الآسيوية قبل بضعة عقود!.
وقد يرجع البعض الفروق بين مستويات أداء الشعوب إلى الجينات وعوامل الوراثة التى تجعل تقدم شعوب شرق آسيا رهناً بوجود قوة عمل صينية العرق تتميز بالكفاءة والإتقان تنتشر فى كثير من دول آسيا وصولاً إلى ماليزيا التى تضم ضمن عناصرها السكانية جالية صينية كبيرة هى الأكثر إنتاجاً وإبداعاً، ولهذا كان رئيس الوزراء الأسبق مهاتير محمد ينصح مواطنيه بأن يولوا وجوههم شرقاً نحو مكة وهم يؤدون صلاتهم ويولون وجوههم غرباً تجاه اليابان وهم يعملون حرصاً على الجودة والإتقان، لكن ثمة من يعتقدون أن المشكلة فى جوهرها مشكلة إدارة بأكثر من أن تكون مشكلة وراثة، وأن التقدم الذى شهدته دول أخرى مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية يعود إلى نجاح أنظمة الحكم فى خلق منظومة عمل يقظة تحسن متابعة مسئوليات العمل التنفيذى وتملك قدرة تصحيحه فى الوقت المناسب فى إطار نظام صارم للثواب والعقاب لأن ما لا يزع بالقرآن يزع بالسلطان، ولأن الإنسان بطبيعته يميل إلى الفوضى والاسترخاء والبحث عن أعذار توفر عليه صنوف التعب والمشقة، وما لم تكن هناك منظومة أوامر وضوابط تستثمر قدراته ضعفت التنمية وغاب التقدم.
وثمة مدرسة أخرى تربط بين الإنتاجية والمناخ، وترى فى مناخ مصر المعتدل ما يشجع على الاسترخاء وتوفير الجهد، عكس دول الشمال التى تلعب درجات الحرارة المنخفضة دور المحفز على بذل المزيد من الجهد لأن مجرد الحفاظ على الحياة فى هذه الأصقاع الشمالية الباردة يتطلب جهداً مضافاً يلزم الإنسان رفع إنتاجيته إلى الحد الذى يمكّنه من إنتاج قدر من الطاقة يحفظ استمرار حياته.
وربما يكون صحيحاً أن ثقافة الإنسان تشكل بالضرورة جزءاً من منظور رؤيته للعمل، وهل هو مجرد ضرورة يفرضها احتياج الإنسان إلى إشباع بعض حاجاته الأساسية، أم أنه خيار ثقافى يحفز الإنسان على العمل لأن وظيفة الإنسان تخلص فى إعمار الأرض ولأن العمل واجب لا غنى عنه والتزام يحقق للإنسان تكامله ويؤكد ذاته وقدر الإنسان أن يمشى فى مناكب الأرض عارقاً مجتهداً لتحقيق إنسانيته وذاته.
ولا بأس بالمرة أن يختلف البعض حول هذه القضايا شريطة ألا يطوع الإنسان حقائق الواقع لغرض فى نفس يعقوب ويتناسى سنوات الفوضى غير البناءة الست التى دمرت قدرات مصر وجعلت قضية أمن كل مواطن القضية الأولى بالعناية والاهتمام وأثرت على أوضاع مصر الاقتصادية والاجتماعية، لمجرد أن يتهم حكم «السيسى» بأنه أفقر مصر الغنية ولم يحسن استثمار قدراتها التى كان يمكن أن تجعلها فى قائمة الدول الغنية!، بينما يؤكد الواقع الحجم الضخم للجهود التى تبذلها الدولة من أجل تحسين أحوال مواطنيها فى ظروف دولية وإقليمية صعبة تفرض عليهم مجابهة تحديات الإرهاب ومخططات التآمر الخارجى.. وبالطبع فإن من حقنا جميعاً أن ننتقد بعض أولويات الرئيس السيسى ونطالبه بتوسيع المشورة والاستماع إلى الرأى الآخر، والموازنة بين ضرورات إصلاح البشر وإصلاح الحجر، وربما يكون من حقنا أيضاً أن نغضب لغياب الحسم داخل حكومته التى لا تهتم كثيراً بضرورات العقاب والثواب، واستمرارها فى أوجه إنفاق غير ضرورى يمكن الاستغناء عنه، لكن اتهام «السيسى» بإفقار مصر هو فى الحقيقة افتئات على الحقيقة يخاصم الموضوعية والعقل ويخطئ توصيف العلة كما يخطئ توصيف فاتورة الإصلاح.
وما من شك أن إمكانات مصر على تنوعها سواء من ناحية الموقع الجغرافى أو ميزات شعبها المتعددة يمكن أن تضمن لها حياة أفضل وغداً أكثر إشراقاً، لكن أحداً لا يستطيع أن ينكر معاناة مصر الشديدة من بيروقراطية ثقيلة الوطأة تخدم نفسها بأكثر مما تخدم شعبها، وما لم يتم ترويض هذه البيروقراطية فسوف تظل عقبة كؤوداً أمام مستقبل مصر، ولن يتم ترويض البيروقراطية المصرية إلا من خلال أساليب جديدة توسع من نطاق الرقابة الشعبية على أعمال الحكومة، وتتبنى نظاماً ديمقراطياً صحيحاً يضع فى اعتباره الرأى والرأى الآخر، ويحترم حرية التعبير ويعتبر الكلمة الصادقة ضوءاً كاشفاً ينير الطريق الصحيح وينبه إلى عثراته وأخطائه أولاً بأول قبل أن تتراكم المشاكل وتزداد تعقيداً، وفى جميع الأحوال ينبغى أن تسبق الخبرة والمعرفة والتاريخ المهنى أى معايير أخرى تتعلق بالموالاة أو المعارضة.