فى كأس الأمم الإفريقية الأخيرة كسبنا فريقاً جديراً بالاحترام وإن خسرنا الكأس نفسها لكن مكسبنا من هذه البطولة فاق المكسب الرياضى بكثير،
فقد اكتشفنا فجأة أن مكانة مصر بين الشعوب العربية لم تتزعزع وهى مكانة تضرب بجذورها فى التاريخ، لكننى عرفتها ميدانياً منذ عقود بحكم تخصصى فى الشئون العربية وعملى مديراً لمعهد البحوث والدراسات العربية عشرين سنة، ولهذين الاعتبارين زرت البلدان العربية كافة وتفاعلت مع أبنائها نخبةً ومواطنين عاديين وكنت دائماً ألمس تأثير قوة مصر الناعمة فى الثقافة والفن والإعلام وقبل ذلك كله نخبتها من المعلمين والأطباء والمهندسين وغيرهم، ومازلت أذكر كلمات المثقف الجزائرى البارز المرحوم محمد الميلى وهو يحكى لى كيف كان وغيره من مثقفى الجزائر ينتظرون قدوم مجلة «الهلال» بفارغ الصبر، وكيف كانوا ينتقلون من مكان إلى آخر عندما تأتى فرقة يوسف وهبى إلى الجزائر كى يشاهدوا عروضها كافة، وفيما بعد تكفل المشروع التحررى لثورة ٢٣ يوليو بالوصول بدور مصر العربى والتفاف الشعوب العربية حولها إلى الذروة، لكن السياسة بدأت تُفسد الأمر بدءاً بالخلاف المصرى - العربى حول التسوية مع إسرائيل الذى ألقى بظلاله السلبية على علاقات مصر العربية وطال هذا للأسف بعضاً من العلاقات على الصعيد الشعبى، وتوالى بعد ذلك عدد من الخلافات العربية التى تصورتُ أنها زادت الأمور سوءاً وأجهزت على كثير من الرصيد المصرى لدى الشعوب العربية ومن هنا كانت مفاجأة كأس الأمم الإفريقية.
بدأت المفاجأة بواقعة وصول مصر المثير إلى نهائى كأس الأمم الإفريقية بعد الأداء الجدى للمنتخب المصرى خاصة حارس مرماه الاستثنائى عصام الحضرى، وكانت أول متابعة لى للأصداء الشعبية العربية للحدث من خلال شريط فيديو لفتنى ابنى إليه وضعه صديق له يعمل بالسودان على صفحته فى الفيس بوك شاهد المباراة فى مقهى بالخرطوم يضم المئات، فإذا بالفرحة تنفجر فور نجاح الحضرى فى صد ضربة الجزاء التى حسمت المباراة . لم أصدق عينى وأنا أشاهد مظاهر الفرح من رقص وغناء وهتافات، وتأثرت كثيراً بتعليق الصديق «كأنى بين أهلى»، ثم جاءت المفاجأة الثانية من أهل غزة الذين شاهدت شريط فيديو يصور جماهير حاشدة تحتفل احتفالاً يزلزل الأعماق بالواقعة نفسها، وكان طلابى هناك يحدثوننى دائماً عن مكانة مصر فى القطاع وحب أهله لها وكنت أحسبهم يجاملوننى، وحدثنى صديق عن مشاهدته شريط فيديو ثالث يصور فرحة أبناء الشعب السعودى بفوز مصر وقيل لى إن هذا قد حدث فى بلدان عديدة أخرى ، وبعد خسارة الكأس شاهدت على إحدى الفضائيات الرياضية العربية لقاء مع مصريين يعيشون فى لندن تحدث أحدهم مشيداً بمشاركة إخوانه الجزائريين والمغاربة والعراقيين فى تشجيع الفريق المصرى وكنت قد شاهدت فى الفضائية نفسها لقطات تظهر فرحة مذيعيها العرب بوصول الفريق المصرى إلى نهائى البطولة.
تداعت إلى ذاكرتى على الفور مشاهد عديدة من الماضى كنت أحسبها قد اندثرت وولت . تذكرت الشوارع الخالية فى العواصم العربية أيام النهائيات الشهيرة لكأس الأمم الإفريقية التى فازت بها مصر للمرة الثالثة على التوالى وحديث الأخ العزيز الدكتور المنجى بو سنينه وزير الثقافة التونسية الأسبق ومدير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لاحقاً عن يوم فوز مصر بالبطولة وكان يعمل فى مكتبه، فإذا بصوت مزلزل يدوى حوله ظنه أمراً جللاً فإذا بها حناجر الجماهير التونسية لحظة فوز مصر بالبطولة، ورواية المرحوم الميلى عن اجتماع رفيع المستوى حضره فى السعودية فإذا بسكرتير المسئول الكبير يدخل الاجتماع ويسر بشىء فى أذنه فتنفرج أسارير الرجل ويقول للحاضرين «عملوها المصريين» ويطلب من سكرتيره تشغيل جهاز التليفزيون الموجود بالمكتب حتى يشاهدوا لحظات ما بعد النصر، وتواصل شريط الذكريات عندى فتذكرت ما هو أبعد من ذلك بكثير عندما فجر الضباط السوريون خط الأنابيب الذى ينقل البترول العراقى إلى أوروبا عبر سوريا وافترش العاملون المدنيون فى القاعدة الجوية البريطانية فى عدن ممرات إقلاع الطائرات محاولين منعها من الإغارة على مصر إبان العدوان الثلاثى على مصر فى ١٩٥٦، وقد لا يعرف البعض أن خروج الجماهير الرافضة للهزيمة فى ٩ و ١٠ يونيو ١٩٦٧ لم يكن خروجاً مصرياً فحسب وإنما كان ظاهرة عربية عامة، وروت لى زميلة لبنانية كيف كان اللبنانيون يتابعون أحداث ثورة يناير لحظة بلحظة وكيف خرج الجميع إلى الشرفات لحظة تنحى مبارك، وهاتفنى واحد من أعز طلابى اليمنيين بعد عشر دقائق من التنحى ليقول لى كيف أن ميدان التحرير فى صنعاء (وقد سُمى كذلك بعد ثورة ١٩٦٢) قد أصبح كنظيره فى القاهرة قبلة للثوار بعد أن أعطاهم الحدث قوة دفع هائلة ليكملوا مسيرة ثورتهم.
لا يعنى ما سبق غياب أصوات النشاز التى تعزف نغماً قبيحاً وتحاول أن تضرب أواصر العلاقة بين أبناء الأمة العربية الواحدة، ولكنه يعنى أن اللحمة بينهم مازالت صامدة رغم كل الخلافات السياسية بين الحكام والتدخلات الخارجية المسمومة من قِبَل القوى الطامعة فى مقدرات المنطقة، وأود أن أُذكر بأن كل المشاعر السابقة لا تعكس مجرد الحب لمصر وإنما هى تجسد رابطة العروبة التى تزعج تلك القوى وتدفعها إلى التفكير فى أى بديل لهذه الرابطة لأن نتائج مخططاتهم ستبقى معلقة طالما بقيت العروبة، وإذا كنا عاجزين عن إصلاح السياسات العربية فهل نضرع إلى هذه السياسات أن تُنصت لصوت الشعوب؟