الأهرام
محمد ابو الفضل
انتبهوا أيها السادة..
أعتقد أن قطاعا كبيرا ممن شاهدوا فيلم «انتبهوا أيها السادة» الذى جرى إنتاجه منذ نحو 37 عاما، يتندرون على الصرخة المدوية التى أطلقها، لأنه أراد تنبيه المجتمع والنخبة السياسية والثقافية بشكل خاص، إلى أن هناك انقلابا فى القيم يجب الالتفات إليه وتصويبه، للدرجة التى جعلت الزبال يتفوق على صاحب العلم ويسرق منه خطيبته.


الفيلم الذى قام ببطولته محمود ياسين وحسين فهمى وناهد شريف، وأخرجه محمد عبدالعزيز، وكتب القصة والحوار أحمد عبدالوهاب، حاضر فى الوجدان ويحفل برسائل متعددة، لأن كل واحد يفهمه على طريقته، فهناك من تصور أن الفهلوة والتهليب والشطارة أهم من التعليم والكد والتعب والسهر، وهناك من رأى أن الأزمة أكبر من ذلك، والتدهور بلغ حدا مخيفا، وعلى السادة المسئولين الانتباه إلى الخطر الحالى والقادم الذى يضرب الوطن، إذا تواصل الانهيار فى منظومة القيم.

للأسف لم يهتم كثيرون بالصرخة التى أطلقت منذ سنوات، فى وقت كان التراجع العام فى بداياته، حتى حدث انحدار فى غالبية مناحى الحياة، وقادنا العجز والكسل والتهاون إلى النسيان وعدم تصحيح المسارات، كما أدى ارتياح البعض إلى ما وصلنا إليه لمزيد من الإخفاق، وأصبح التعامل مع الخلل والفساد بكل تجلياته معتادا، وربما جزءا من البلاء الذى يجب أن نتأقلم عليه، وحتى محاولات العمل على تجاوزه فردية، مع أن جذوره تضرب فى عمق مؤسسات كثيرة، والتخلص منه يحتاج إلى رغبة كبيرة وإرادة عامة ورؤية شاملة، وتغيير يضمن اقتلاع مختلف الأمراض، وليس تسكينها عبر جرعة مؤقتة تمنح فرصة لالتقاط الأنفاس السياسية.

وبالتالى من الطبيعى أن نفشل فى القضاء على مشكلات التعليم والصحة والإهمال والبيروقراطية وغيرها، وسوف يستمر الفشل ما لم ينتبه السادة المسئولون إلى أن هناك أخطاء متراكمة بالجملة، لا تتطلب فقط تصحيح الدفة فى كل إدارة أو هيئة أو مؤسسة، لكنها بحاجة إلى تجديد أعمدة السفينة لبتر التشوهات التى يستند إليها البعض، قبل أن نفقد ما تبقى لدينا من بصيص أمل ويقظة وقانون.

انتباه السادة المواطنين والمسئولين للأزمات المتزاحمة، يفرض التدقيق فى أسباب الفشل الذى يلازمنا منذ سنوات، وجعلنا نناقش اليوم مشكلات وأزمات الأمس، مع فارق جوهرى فى الحجم والتضخم والانتشار، بحكم التغيرات السياسية والتطورات الاجتماعية والتحولات الاقتصادية، ولعل الأسئلة المركزية التى تتردد كثيرا فى أذهاننا، لماذا الفشل؟ وما هو العلاج؟ وكيف سيكون المصير؟

التفسير عندى أن هناك شخصيات كبيرة، كانت مسئولة فى الدولة أو لا تزال، تتحكم فى مفاصل جهات ومؤسسات وهيئات كثيرة توفر الحماية اللازمة لكل صاحب مصلحة، فغالبية المدارس الخاصة، وفى مقدمتها ما يسمى بالدولية، مملوكة لأشخاص لديهم ما يكفى من العلاقات والقوة والنفوذ، أو على الأقل شركاء فيها، يقطعون الطريق على المحاسبة قبل وقوعها، ويمنعون المنغصات الإدارية، ويحجبون الأخطاء والكوارث، ويوفرون الهدوء والأمان ليتصرف القائمون عليها بحرية وبلا التزام بأى ضوابط وأعراف وقوانين.

لك أن تتخيل أن مديرة إحدى المدارس الدولية فى حى الشيخ زايد بأكتوبر، أعلنت زيادة كبيرة فى المصروفات العام المقبل، وأنذرت بكل بجاحة الرافضين من أولياء الأمور بعدم دخول أبنائهم المدرسة وتركهم فى الشارع ليضيع مستقبلهم. كما أن لجنة إدارية من وزارة التعليم كانت فى طريقها لمدرسة أخري، وإذا برئيس اللجنة يتلقى اتصالا هاتفيا من مدير المدرسة، الذى علم من داخل وزارة التعليم أن لجنة سرية فى طريقها إليه، يسأله متى سيصل ليكون فى شرف استقباله؟ والقصص فى هذا المجال كثيرة ومثيرة وكاشفة لفهم جانب معتبر من العوار الذى أصاب التعليم.

الحال المؤسف فى المدارس، لا يختلف كثيرا عن التدهور المتفشى فى غالبية المؤسسات، فقد انتبه مبكرا معظم أصحاب المصالح إلى فكرة توفير الغطاء أو الملاذ الآمن الذى يوفر لهم الحماية، ويبعد عنهم شبح القانون، بل ومعاقبة من تسول لهم أنفسهم إشهار سيفه. ولعل ما حدث عقب مباراة مصر والكاميرون يرفع الستار عن هذه المأساة، ويفرض على السادة بأطيافهم المختلفة، الالتفات إلى أن هناك خللا كبيرا يتجاوز حكاية الزبال والعالم، يضرب المجتمع فى مقتل.

الشاب الذى لقى حتفه على أيدى بلطجية فى كافيه مصر الجديدة، كل جريرته أنه اعترض على الطريقة السيئة التى تعامل بها أصحاب المقهى مع رواده، فكان مصيره مطواه تغرس فى صدره بأيد باردة، لأن صاحبها ومحرضيه امتلكوا جرأة يحسدون عليها، ليس فى الصلف والعمل بلا ترخيص رسمى والتحايل على القانون، لكن بالثقة التى جعلتهم يعتقدون أن العقاب لن يقترب منهم.

الواضح أن الجريمة التى هزت المجتمع المصرى لن تكون الأخيرة، لأن قطاعا كبيرا ممن يملكون أنواعا مختلفة من التجارة، تعليم وصحة ومقاه ومطاعم ومصانع وحتى التاكسى والميكروباص، قبل أن يقيموا مشروعاتهم الكبيرة والصغيرة، بحثوا عن أشخاص يضمنون لهم حماية تصرفاتهم السلبية وخروجهم على القانون، والدفاع عنهم عند الحاجة.

من هذه الزاوية يمكن فهم أسباب الفشل الذى يلاحق محاولات وأد الفساد، لأن بعض ممن يقومون على محاربته لديهم حسابات وامتدادات قوية مع شبكة مصالح، أو تقع عليهم ضغوط تغل يد كل من تسول له نفسه الاقتراب، وربما النجاح الذى حققته الرقابة الإدارية مؤخرا يمكن إرجاع جزء معتبر منه إلى أنها تحللت من الأغلال والقيود، ولا تزال عصية على الاختراق، الذى يكبل جهات كثيرة، عندها الرغبة ذاتها، لكنها تفتقد القدرة والسيطرة.

المشكلة أن تغول الفساد وعدم اجتثاثه، سيكون معطلا لفرص التنمية، لأن المحاولات الدءوبة التى يقوم بها الرئيس السيسى من أجل الإصلاح سوف تصطدم به، بسبب وضع العصى فى عجلات المشروعات التى تدور فى أماكن مختلفة، وقد يصاب بعضها فى مقتل، خاصة أن الناس تضع ثقتها فى السيد الرئيس، وتحمله المسئولية كاملة، فإذا انفجرت ماسورة مياه فى الجيزة، أو اختفت السلع وزادت أسعارها، أو ارتفعت مصروفات المدارس، وجهت أصابع الاتهام لسياسات الرئيس والتشكيك فى تصوراته ومشروعاته، وبالتالى عليه فرض أسلوب شامل لتجفيف منابع الفساد فى جميع القطاعات.

ليس الغرض من كلامى تبرئة أو دفاعا عن أحد، لكن الهدف ضرورة الالتفات إلى خطورة ما يجرى فى مجالات مختلفة، لأن استمرار التداعيات السلبية، سوف يدمر الكثير من الطموحات والإنجازات، ويجعلنا ندور فى حلقة مفرغة، ولن نشعر بأى تقدم حقيقى على جميع المستويات، لذلك على السادة المسئولين الانتباه.. كمان وكمان، قبل أن يفوت الأوان.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف