الجمهورية
مدبولي عثمان
دائرة الوعي .. دروس الفقراء لأساتذة الإقتصاد..
أحس بسعادة غامرة عندما كنت أدرس لطلابي النظريات الاقتصادية الرائعة التي من المفترض أن تعالج المشكلات المجتمعية بجميع أشكالها.. ولكن في عام 1974 بدأت أشعر بالفزع من محاضراتي ذاتها.. فما فائدة كل نظرياتي المعقدة والناس يموتون من الجوع علي أرصفة الشوارع ومداخل المباني القريبة من قاعة محاضراتي ¢. مثلت تلك الكلمات الصرخة التي أطلقها عالم الاقتصاد البنجلاديشي محمد يونس في وجه الجوع الذي ضرب جزءاً كبيراً من بلاده في نفس العام وحصد أرواح حوالي 1.5مليون بنغالي.
أعطي يونس - الذي كان عمره في ذلك الوقت 34 عاما - درسا عمليا لكل علماء الاقتصاد الذين يرتضون الاستمرار في التدريس النظري للطلاب دون جدوي. وفي نفس الوقت أعطي درسا قاسيا للحكومات التي تتجاهل تطبيق نتائج الأبحاث والاختراعات العلمية والأفكار وبالتالي تتفاقم المشكلات.
وسجل يونس تلك الدروس القيمة في كتابه المهم بعنوان "عالم بلا فقر". وهو كتاب متوسط الحجم يبلغ عدد صفحاته 247 صفحة. وأشك في إطلاع أحد من كبار المسئولين عليه رغم ان الهيئة العامة للكتاب أصدرت نسخته بالعربية عام 2007. وأعتقد أنه لو حاول المسئولين عن معالجة الفقر في بلدنا مصر الاستفادة من تجربته لانخفضت كثيرا معدلات الفقراء المصريين.
وقررمحمد يونس اتخاذ موقف شجاع وغير مسبوق من أجل علاج مشكلة الفقر والجوع في بلاده. فقال في كتابه: قررت أن أكون طالبا من جديد وأن يكون أهالي قرية جويرة الجوعي المجاورة للجامعة هم أساتذتي. وعلمني الفقراء علم اقتصاد جديد تماما. فقد تعرفت علي المشكلات التي يواجهونها من منظورهم الخاص مما قادني الي التفكير العميق لمساعدتهم ليس علي العيش فقط وإنما لإشعال شرارة الابداع و المبادرة الشخصية لديهم مما يخرجهم من مشكلة الفقر.
ومن قبلها بحوالي عامين كان يونس قد اتخذ قرارا أكثر صعوبة عندما قرر ترك الحياة الرغدة في أمريكا والتدريس المربح في جامعاتها في عام 1972 ليعود للمساهمة في إعادة بناء بلده. وسجل موقفه في الصفحة 29 من كتابه قائلا: "في 16 ديسمبر عام 1971 كسبت بنجلاديش حرب استقلالها عن باكستان. ودفعت ثمنا باهظا. فقد قتل 3 ملايين بنغالي. واصبحت نجلاديش بلدا مدمرا وصار اقتصادها مخربا. وقد كنت أدرك أن علي أن أعود إلي الوطن. وكنت أعتقد أن ذلك واجب علي ان أؤديه".
غادر يونس رئيس قسم الاقتصاد في جامعة شيتاجونج وطلابه قاعات المحاضرات وانتشروا وسط الفقراء في القري المجاورة للجامعة. وتجولوا بين المعدمين في الاكواخ. وخلصوا إلي أن ¢ إن الفقراء مبدعون للغاية فهم يعرفون كيف يكسبون عيشهم وكيف يغيرون حياتهم وكل ما يحتاجونه هو الفرصة ويحقق لهم الائتمان بالغ الصغر هذه الفرصة ¢.
وخاض يونس معركة طويلة لتوفير قروض صغيرة بلا ضمان للفقراء المعدمين انتهت بتأسيس "بنك الفقراء" سبتمبر عام 1983 الذي ساهم في نقل الملايين من المتسولين في بلاده الي منتجين يساهمون في تنمية الصناعات الريفية. وتحول البنك الي تجربة عملية لمحاربة الفقر تم تطبيقها مع بعض التعديلات في اكثر من 50 دولة فقيرة وغنية علي مستوي العالم. حتي فقراء أمريكا استفادوا من التجربة وقام يونس بتأسيس بنك الفقراء في ولاية أركانسو تحت اسم ¢ صندوق حسن النية¢ بناء علي طلب حاكمها في ذلك الوقت بيل كلينتون.
وحصل محمد يونس علي جائزة نوبل للسلام سنة 2006. مناصفةً مع بنك الفقراء. وذكرت لجنة نوبل في حيثيات قراراها كلاما عظيما جاء فيه :¢قد أظهر محمد يونس نفسه ليكون الزعيم الذي نجح في ترجمة الرؤي إلي إجراءات عملية لصالح الملايين من الناس. وليس فقط في بنجلاديش. ولكن أيضا في العديد من البلدان الأخري. ومن خلال بنك جرامين "الفقراء" جعل محمد يونس من القروض الصغيرة أداة أكثر أهمية من أي وقت مضي في الكفاح ضد الفقر¢.
ولفت يونس في كتابه الي دروس واقعية كثيرة لمعالجة الفقر ذكر منها قوله: إذا شارك الفقراء وغير الفقراء في برنامج واحد فإن غير الفقراء عادة ما يخرجون الفقراء منه والأقل فقرا يخرجون الأكثر فقرا. ففي مثل هذه الحالات يجني غير الفقراء فوائد كل ما يتم عمله باسم الفقراء. واعتقد ان ذلك ينطبق تماما علي الصندوق الاجتماعي للتنمية في مصر الذي تأسس عام 1991. وتشير الاحصائيات إلي أنه أنفق صرف أكثر من 30 مليار جنيه منذ إنشائه لمساعدة مشاريع الشباب وتوفير ملايين فرص العمل لهم. ولكنها في الحقيقة تم إهدار معظمها في شكل مرتبات مرتفعة جدا للعاملين فيه والذي كان معظمهم من اقارب الوزراء والمحافظين واصحاب النفوذ. وفي منح قروض كثيرة لمن لا يستحقونها.
فهل يمكننا الاستفادة من تجربة يونس واقتطاع بعض المليارات من تكاليف المشاريع القومية وضخها بسهولة وشفافية لاعادة تشغيل آلاف المصانع المتوقفة. وتمويل الحرفيين وأصحاب الورش وصغار المصنعين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف