يوم مثل سائر الأيام، مقهى شهير أصبح من علامات مصر الجديدة، وشاب وسيم فى مقتبل العمر، يصطحب خطيبته لمشاهدة مباراة المنتخب الوطنى، تنقلب المتعة الكروية إلى مشاجرة بسبب سياسة المحل وأصحابه ومديريه، وفجأة ينقلب الأمر إلى جريمة بشعة، يقضى على أثرها «محمود» نحبه أمام عينى خطيبته والناس.
كم جريمة قتل وعاهات مستديمة حدثت على أتفه وأقل الأسباب؟! كم فرداً زهقت روحه لأنه يدافع عن فتاة، أو يدرأ عن نفسه خطراً أو يقاوم سرقة، أو يمتنع عن دفع (إتاوة)؟!؟ للأسف، إنه أمر بات يحدث كثيراً.
محمود بيومى بطل الأحداث اليوم هو بطل أسرته أولاً، أعرف أسرته، وأعلم مدى تعلق إخوته وأبويه به!! إن الفزع الذى ملأ عيوناً كانت تنتظر صور حفل زفافه يُفْزِع فى حد ذاته، المصاب جلل، أذاب قلوبنا جميعاً، لم يُقتل «محمود» فحسب، بل طعنت أفئدة أهله وأصدقائه وجيرانه، بل وكذلك المتابعون للأخبار.
الآن وبعد أيام من الحادث، انظر إلى الأمر من زاوية مختلفة، «محمود» شاب من أسرة محترمة جداً، اجتهد أبواه فى تربيته واستمرا طوال سنوات عمره فى مراقبة زرعهما كى ينعما به وبذريته، لـ«محمود» إخوة من الأب وأخوات من الأم، وكان أصغرهم جميعاً، والرابط بين الجميع، هو الأخ المشترك، والحلم المشترك والحبيب المشترك، الذى يحظى بعناية ومراقبة الجميع وحنوهم، تخرج محمود فى الجامعة البريطانية، وخطب فتاة جميلة، وكان يستعد لتسلّم عمله الجديد والتجهيز لبيت الزوجية، مواطن نموذجى، وصورة مشرّفة لما يجب أن يكون عليه الشباب.
القاتل شاب أيضاً، عامل شيشة أو «بودى جارد» أو نادل قهوة، هو نتاج المجتمع ذاته، لكنه بمواصفات أخرى، ربما يتعاطى المخدر أو المكيفات، هو ابن بيئة مختلفة، يعلو بها صوت آخر، صوت صاحب المقهى ومدير المحل!!، ودوره المكلف به فى هذا المكان (ممارسة العنف)، لم يتعلم القاتل أن حمله سلاحاً أو أداة قاتلة وإيذاء أحد بها، أمر خطير، ربما قتل أحدهم، أو ربما عاقب عليه القانون!! فهو يومياً يرى مجتمعاً تسود به البلطجة واللاقانون، يرى دراما وسينما تُرسّخ للعنف والقتل والسيوف والمطاوى، يرى أن من لا يبدأ بالفتك يُفْتَكُ به!!! وربما اعتمل بقلبه حقد على شاب بسنه ذاتها، يحيا حياة أخرى، وربما استفزته هيئته أيضاً، فحمل له حقداً مضاعفاً، أسرع بالفتك به.
نحن بصدد مشكلات مجتمعة فى كارثة واحدة، أعتقد أن عائلة «محمود» وأقاربه وأحباءه لن يُمرّروا الأمر أبداً، وسوف يُصعدونه إلى أعلى المستويات، وهذا ما يجب عليهم فعله بالطبع، كذلك لا يجب على المجتمع ولا الدولة تجاوز الأمر، مَن يدرى، ربما كانت دماء «محمود» سبباً فى وقف مسلسل البلطجة المستمر بمجتمعنا، أو انتشار المحلات غير المرخصة بالأماكن السكنية، أو تعاطى المخدر أو حمل السلاح؟!
أرى الحل الحقيقى قبل إغلاق المحلات المخالفة، وقبل تكسيرها، وقبل مراجعة أوراق الأحياء ومسئوليها وفتح ملفات التجاوز والفساد بها، أن يغلق باب البلطجة إلى الأبد، إنه إجراء حكومى بالأساس، وخطة مجتمعية سريعة، تمنع الشباب من أن يضيع بين قاتل ومقتول، بين بلطجى متعاطٍ على هامش المجتمع والحياة، وبين ابن أسرة تعبت واجتهدت لإخراج شاب صالح للمجتمع ذاته. القاتل والمقتول مسئولية الدولة والمجتمع.
راقبوا دراما العنف، غلّظوا قوانين التعاطى والبلطجة والتعدى ونوّهوا عن هذا فى نشرات الأخبار وإعلانات الطرق، لماذا لا نتدارك باقى الشباب الضائع قبل أن يتحولوا من بلطجية إلى قتلة؟! لماذا لا تعد لهم إصلاحية ضخمة، تكون بداخلها مشروعات لصالح الدولة يعملون بها وعند انقضاء فترة تأهيلهم وإعدادهم نفسياً، يخرجون للمجتمع أناساً آخرين، بدل أن يُسجنوا فيفسدوا غيرهم أو يزدادوا انحرافاً وعنفاً وراء قضبان السجون. والآن من قتل محمود؟! فتى الشيشة فقط!! أم المنظومة ككل!!!