الأخبار
محمد السعدنى
العلم هو الحل وليس «القيصر»
الناس في بلادي يموتون وهم ليسوا سعداء - كاليجولا في مسرحية ألبير كامي
في الخمسينيات من القرن العشرين وبأثر الحرب العالمية ونتائجها ومآسيها المروعة، ظهرت حركة فلسفية وأدبية أسست لمسرح العبث واللامعقول قادها الأيرلندي صمويل بيكيت والفرنسيان ألبير كامي وجان جينيه، والروسي آرثر آداموف وهارولد بنتر الإنجليزي وغيرهم، جاءت مسرحياتهم ورواياتهم معالجات جديدة رافضة لما حل بالإنسان المعاصر جراء عبث الحياة ولامعقولية الوجود في ظل أحداث العالم وحروبه ونظمه السياسية التي اتصفت بالصلف والغباء مما جعل مصير الإنسانية غامضاً يؤطره البؤس والحزن والسواد والعدمية، والاغتراب، وأن الحياة عملت بكل قسوة وتجبر وغباء علي تشييء الناس وتسليعهم وتجميد طموحهم وآمالهم في انتظار مالا يجيء. وفي حركة الترجمة النشطة التي تبناها نظام عبد الناصر الذي يتفلسف حول ثورته ورؤاه الجهلاء، انفتحت عيوننا وعقولنا علي سلاسل الأدب العالمي، الألف كتاب، نوابغ الفكر الغربي، المسرح العالمي، روايات عالمية، ترجمات حديثة، سلسلة اقرأ، المكتبة الثقافية، كتابات معاصرة، مختارات عالمية، كتاب الجيب، وغيرها، فقرأنا فيها بقروش قليلة لصمويل بيكيت »في انتظار جودو»‬ ولألبير كامي »‬الغريب» والمنفي والمملكة» و»سيزيف» و»مسرحية كاليجولا» كما قرأنا للبلغاري يوجين يونسكو »‬ الملك يحتضر» والمغنية الصلعاء» وغيرها، ومازلنا نعيرها لطلابنا وأبنائنا يستمتعون بهذه الأعمال والسلاسل حتي يومنا هذا، وتعيد طبعها الكويت في سلاسلها الثقافية الجادة.
وحتي لايتصور القارئ العزيز أن مقالنا هذا مبحث في الأدب والمسرح والفلسفة، كان هذا تقديم للإشارة إلي أن الفكر العالمي اهتم بسعادة الإنسان واتساق رؤيته ومعيشته وتصاريف حياته مع معطيات عصره وتحولاته ونظمه وسياساته التي ينبغي أن تحافظ له في حدها الأدني علي سلامة عقله ووجدانه وكرامته وإنسانيته وسعادته. ولعل مفهوم السعادة في الأدبيات الغربية أكثر شمولاً واتساعاً مما نطمح للوصول إليه في بلادنا، وحتي لا ندخل في تفاصيل فلسفية، فالسعادة لدينا مفهوم أبسط ربما يقترب من مفهوم الرضا، فالناس في بلادي يعيشون ويموتون وهم غالباً لايعرفون السعادة إلا قليلا ويترجمونها في الستر والرضا بحد الكفاية دون أمل غالباً بالرفاهة التي تتغياها الأنظمة الغربية المتقدمة لمواطنيها. إذ انتقلت الإنسانية في الغرب عبر مسيرتها في الدولة الديمقراطية الدستورية الحديثة بمواطنيها من حد الكفاف إلي حد الكفاية إلي الرفاهة، بينما نحن في فئات مصرية محدودة ربما نبحث أحياناً عن السعادة وقد لانعرفها، وكما يقول تولستوي، إنّنا نبحث عن السّعادة أحياناً وهي قريـبة منا، كما نبحث عن النظّارة أحياناً وهي فوق عيوننا. وهنا يطرأ السؤال، لماذا السعادة؟ أو لماذا الرضا مطلب نرفعه أمام التعديل الحكومي كسياسة لابد من الوفاء بها لأسباب علمية لا أدبية ولا بحثاً عن رفاهية، إنما رضا عام يساعد بمنطق العلم علي نجاح مخططات التنمية. كيف؟ انتبه!
في دراسة علمية أمريكية حديثة أثبتت أن البشرية كانت عبر القرن العشرين أقل 18% إحباطاً عما نحن عليه الآن، إذ أن تعقيدات الحياة فيما بعد الحداثة، أو في العالم الذي انتقل من رحابة ورتابة الأيديولوجيا إلي تعقيدات وسرعة التكنولوجيا أدي بسرعته وإيقاعه وطموحاته إلي وضع البشر تحت ضغوط كبري من أجل تحقيق النجاح في الحياة التي أصبحت أكثر تعقيداً. ليس هذا فحسب، فقد تغيرت المعادلة بين الأقانيم الثلاثة الحاكمة لعملية الإنتاج والتنمية وسلامة وتقدم البشر والمجتمع، والتي كانت تشير إلي أن العمل الجاد المنظم هو ما يؤدي إلي النجاح الذي بدوره يجلب ويؤدي إلي السعادة. اتضح بالتجريب العلمي والإحصاء والتحليل والدراسة الميدانية، أن السعادة هي الحافز والسبب والمولد للعمل الجاد المنظم المنتج والذي بدوره يؤدي للنجاح. فالدراسات التي أجريت علي الدماغ البشري بروابطه العصبية ومستقبلاته وكيميائه وهرموناته وإفرازاته للبشر الخاضعين للتجربة، أثبتت أن السعداء وحدهم هم القادرون علي الأداء الأفضل والأقوي والفعال، وأشارت القياسات العلمية إلي أن الأشخاص السعداء يكونون أكثر إيجابية وتفاؤلاً ويحققون نجاحاً أكبر في أعمالهم وبالتالي يحصلون علي مراكز أعلي ودخول ورواتب أكبر ويحققون أهدافاً بعيدة المنال عما عداهم ويكونون أكثر هدوءًا في مواجهة ضغوط العمل مما يكسبهم قدرة أكبر علي التفكير والمبادرة، وبالتالي يكونون أكثر نشاطا واستقرارًا ويعيشون أطول ولا يعانون من أمراض العصر التي تقلل انتاجيتهم. ومن هنا كانت نتيجة البحث: أن السعادة هي العنصر الأساسي لتحقيق النجاح والتفوق والإنتاجية وليس العكس، لأننا عندما نعيش حياة سعيدة متوازنة، فإن أجسامنا تفرز كيماويات تقلل من القلق والتوتر بما يساعد علي التركيز، لأن الوضعية الذهنية للبشر تنشأ أساساً من أفكارهم وتفاعلاتهم وكيفية توظيف وقتهم وتركيز طاقاتهم الإيجابية فيما يفيد لأننا محاطون بطاقات سلبية ومحبطات حولنا.
من هنا فإذا كان لابد من تغيير في حياتنا للأحسن، فعلينا نحن إحداث هذا التغيير ما دمنا نحافظ علي طاقتنا الإيجابية والسعادة والوضعية الذهنية المبادرة، هنا يمكننا صناعة الفارق وعدوي من حولنا.وأحسب أن مثل هذه الدراسة العلمية التي قدمناها ربما كانت وراء قرار دولة الإمارات العربية بتعيين وزير للسعادة، فالقرار كان تسليماً بما ذهب إليه العلم الحديث وليس تقليعة تندر عليها غير العارفين.
ولعل ما قدمناه يصلح درساً لحكومتنا السنية بعد تعديلها أن تهتم بقضية قياس منسوب الرضا لدي الجماهير والعمل علي إسعادها بالأمل وتيسير سبل الحياة، لأن شعباً محبطا لايمكن أن ينتج أو يتقدم. القضية إذن ليست في اصطفاف الناس حول النظام والرئيس ودعم الدولة وكل ما يقال ويروج له، إذ العلم الحديث يشير إلي العنصر الحاكم والدافع للإنتاج والتنمية وهو السعادة أو لنتواضع ونسميه ستر الناس ورضاهم عن سياسات حكومة أفقرتهم وهمشتهم وأهانتهم بالعجز والعوز والحاجة. الرضا العام هو الأساس وليس رسالة عبد المنعم سعيد الإعلامية ولا قيصر البروباجاندا، فكل هذا لن يفيد التنمية، ولن يزيد القدرة علي العمل والإنتاج، ولن يخرجنا من مأزق الاقتصاد وتدني السياسة. واعلموا أن الناس ليست ضد الدولة، وأن الإحباط بالفشل الحكومي سبب مشاكلنا، وليس كل معارض ضد الرئيس، علي العكس، فكل المصريين يتمنون نجاح السلطة وتقدم الوطن وليس فقط قطط الإعلام السمان. ولاحل إلا باحترام الشعب والعمل علي رضاه ورفع الظلم عنه، وليس لذلك من سبيل إلا بالعودة لقواعد العلم ومنهجه، ففيه المخرج والحل والملاذ، ولعل ماعرضناه عن نتائج الدراسات العلمية الأمريكية ما يقنع وما يستحق أن يقوم دليلاً ومنهاجاً.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف