كل سورة من سور القرآن الكريم حديقة غناء، لثمارها طعمها الخاص، وأوراقها النضرة، وظلالها الوارفة، وأغصانها الحمول... كل سورة من سور القرآن الكريم لها أسلوبها المتفرد، وبلاغتها الخاصة، وعطاياها العظيمة، وإرشاداتها المباركة، ودلائلها العالية، ورونقها البديع... كل سورة من سور القرآن الكريم لها جوها الذي نزلت فيه، وأحداثها التي واكبتها، وملابساتها التي اكتنفتها، ورسائلها التي استهدفتها... فتعامل مع القرآن على هذا الأساس؛ على أنه سور... على أنه 114 سورة، أي 114 حديقة، لكل حديقة ثمرها الخاص ومذاقها المتفرد... وليس على أنه 30 جزءا و 60 حزبا و 240 ربعا... إلخ. واحرص على أن تختم السورة إذا بدأت فيها، وأن تكون قراءتك على هذا الأساس... لا على أساس الأجزاء والأحزاب... فالقرآن المجيد في السماء (في لوح محفوظ) سور وليس أجزاءا وأحزابا... فتأمل!. ستدرك ثمرة ما أقول إذا أعطيته قدرا بسيطا من التأمل، وجزءا قليلا من التفكير، وأعرته بعض انتباهك... وهذه أمثلة تبين ما قصدت، على سبيل المثال لا الحصر.. وإلا فالأمر يحتاج تفصيلا ليس هنا مقامه، ونسأل الله جل وعلا أن ييسر للكتابة في ذلك.. سورة سورة... فنقول هنا على سبيل المثال: - تفتح لك سورة (الضحى) صفحة واضحة لبدايات بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتضعك في بؤرة الحدث، وتنقل لك رائحة الوحي وعبق اتصال الأرض بالسماء بعد فترة من الرسل... وترسم لك ملامح هذا النبي الكريم ذي النفس التواقة إلى إشراقات السماء وتجليات النور العلوى على ظلمات مكة في تلك الأيام. وتكشف لك براكين الشوق عنده صلى الله عليه وسلم لوحي السماء، وحجم خوفه الكبير من انقطاعه وانتهائه كأن شيئا لم يكن... وتلمس منها حجم التحنان الإلهي، والعطف الرباني، والتكرم على عبده ومصطفاه ليكون خاتمة رسله وأنبيائه... وغير ذلك مما ترسمه السورة وتشي لك به عندما تعطيها شيئا من التفكير وقدرا من الانتباه... وهكذا... - وسورة (الرعد) التي تشعر في آياتها بقصف شديد لمعالم الكفر ومجاهل الغي وتزلزل كيان الكافرين في كل زمان ومكان.. - وتكشف لك سورة (التوبة) عن خبايا نفوس المنافقين وكيف فضحتهم السورة وأظهرت بواطنهم... فيا لها من دروس وعبر تنادي عليك؛ أن اهرب من النفاق وخف على نفسك منه واحذر من نقض إيمانك والقدح في إسلامك... وتظل (ومنهم) في آياتها الكريمة تصعقهم وفي نفس الوقت تنبهنا؛ إن احذروا على أنفسكم. - وتضعنا سورة (آل عمران) وسورة (الأنفال) في معمعات الحروب، وملابسات الغزو... من همهمات الخيول، وأصوات السنابك، والكر والفر... حتى - والله - ليخيل إلى أحيانا سماع صوتها أو شم غبارها... - وسورة (الفلق) التي تقذف أولئك السحرة والكهان ومن أظلمت قلوبهم ممن يحسدون الناس على فضل الله عليهم... ويأتي حرف ال(ق) فيهزك هزا وأنت تقرؤها وينبهك ويزجرك ويربت على ظهرك في نفس الوقت؛ ألا تفعل ذلك ولا تخف ممن يفعلونه... - وفي سورة (الناس)... يضعك حرف ال(س) المكرر في آياتها الكريمة في جو وسوسة أولئك البشر، ويكشف لك سلاحهم الحقير في الإيذا بال(وسوسة)... أو ال(وشوشة)... وسوستهم هي أول قذائفهم عليك... وتشترك السورتان الكريمتان (الفلق والناس) معا في وضع حصن قوي، ودرع واق لك أمام كل تلك الشرور... مفتاح ذلك الحصن هو اللجوء إلى حصن الله والدخول في حمايته وتحت رعايته... والدخول لحصنه يكون بالتعوذ؛ التعوذ بالله... فالسورتان الكريمتان تصدعان وتناديان عليك... وتسلمانك ذلك المفتاح في يسر وسهولة... فقط قل (أعوذ)... فقط: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس... وإلى تلك الجنان الرحاب، وهاتيك الساحات الخصاب... والحدائق الغناء.. يتجدد اللقاء... إن شاء الله.