الجمهورية
على هاشم
الحضري الأسطورة.. عليه أن يتعلم من تجربة شحاتة!
في كرة القدم كما في السياسة وغيرها.. دوام الحال من المحال.. لا نجاح يدوم.. ولا فشل يستمر إلي ما لا نهاية لكن ذلك لا يمنع أن للنجاح أسبابه ودوافعه ومقوماته.. وللفشل أيضًا.. لا شئ يولد ويتحرك وينمو ويتعاظم في فراغ.. في كل تجارب النجاح هناك تقويم ودراسة ودروس مستفادة.. فربما يكون الوصول لقمة النجاح صعبًا لكن الأصعب هو الحفاظ علي تلك القمة.. ولا يتحقق ذلك باستدعاء مؤهلات الصعود للقمة. ولا باجترار الماضي والمواقف والتاريخ مهما تكن عظيمة وخالدة.. لكن بتطوير مقومات البقاء والجدارة والاستحقاق.. ومهما يبلغ الإنسان الناجح من درجات العبقرية الفذة والإنجاز العظيم فإن ثمة لحظة قدرية ينبغي عندها أن يكتفي بما حققه في موقعه ليتيح الفرصة لغيره. وحتي يترك الساحة مرفوعًا فوق الهامات. ممدوحًا في العقول. محببًا في القلوب.. هكذا تقول تجارب العظماء الذين خلدتهم الذاكرة الإنسانية في السياسة والرياضة والفن حتي العلم.. أما ترك الأمور للزمن واستمراء البقاء والتأبيد فذلك أولي درجات انهيار ما حققه الإنسان الناجح في مجاله.
ثقافة الاعتراف بالتغيير ولا أقول الفشل تكاد تكون غائبة عندنا. فدورة النجاح وتداوله بين الناس أمر حتمي.. فالأب المؤسس لامبراطورية اقتصادية ناجحة مهما يبلغ شأنها لا بد يومًأ سيسلم الراية لمن خلفه والأولي به أن يسلمها راغبًا في ذلك وليس مضطرًا أو مرغمًا بعوامل الزمن.. فالنهايات الجميلة دائمًا تخلد في الذاكرة.. ذاكرة العظمة والخلود.
من أخطر عيوبنا أن البعض لا يعترف بثقافة التغيير ويترك الأمور للزمن حتي يقضي فيها بما شاء. فثقافتنا ليس فيها الاعتراف بالفشل ولا القدرة علي تحديد اللحظة المناسبة تاريخيًا للتوقف والاعتزال. سواء في المناصب الوظيفية أو الرياضية أو الفن.. وتقديم كشف حساب بما تحقق من إنجاز والانتقال إلي موقع آخر يمكن أن يعطي فيه الإنسان بطريقة أفضل بفكر جديد وطاقة متجددة. بدلاً من الإصرار علي ثقافة جامدة سادت عقولنا في مجالات الحياة المختلفة طيلة العقود الماضية.. ثقافة مفادها التأبيد في المناصب بل وتوريث بعضها للأبناء وما يجره ذلك علي المجتمع من احتقان وخلو من الكفاءة و تكافؤ الفرص والإبداع. فضلاً عن مخالفته للدستور الجديد إذا سلمنا جدلاً بأنه ليس شرطًا أن تكون كفاءة الأبناء وجدارتهم في مثل كفاءة الآباء واستحقاقهم.
الاستمرار في بعض المناصب أو المواقع والتمسك بالكرسي حتي درجة التوحد معه رغم الفشل والإخفاقات وفقر الموهبة والكفاءة وافتقاد القدرة علي العطاء أو تحقيق أدني مقومات النجاح.. كان ذلك موجودًا في عقود سابقة وكان دستورنا يسمح بذلك.. ونحمد الله أن دستورنا الحالي لا يجيز مثل ذلك بدءًا بأعلي المناصب قاطبة. متمثلاً في منصب الرئيس الذي جعل مدة رئاسته 4 سنوات تجدد لمرة واحدة» أي 8 سنوات بحد أقصي. وهو ما ينبغي أن ينسحب بالضرورة علي سائر المناصب سواء في الجامعات أو القضاء أو الصحافة أو الأجهزة الحكومية أو الوزارات والمحليات وغيرها.
التغيير سنة الحياة وضرورتها.. التأبيد تعطيل لهذه السنة التي أراد الله بها مداولة الأيام بين الناس. وضخ دماء جديدة في شرايين الحياة وفتح المجال أمام بناء كوادر متجددة من الصفوف الثاني والثالث والرابع إلي ما شاء الله حتي لا نشكوا يومًا كثرة المعتذرين عن عدم قبول المناصب السياسية رغم ما تزخر به مصر من كفاءات فيما يؤشر لظاهرة ¢ عزوف الكفاءات ¢ وليس نضوبها.. وبينهما فارق هائل!
وإذا كان الدستور أعادنا للصواب بتداول طوعي للسلطة. فإنه يبقي أن تتغير ثقافتنا وعادتنا في التعامل مع المناصب صغيرها وكبيرها.. حتي لا يستمر تجريف الكوادر وهروبها إلي الخارج في ظاهرة تستنزف مصر التي أنفقت وعلَّمت بينما غيرها يحصد ثمرات هذا الإنفاق وذاك التعليم.
تُري.. لو أن المعلم حسن شحاتة المدير الفني الأسبق للمنتخب ترك موقعه التدريبي لغيره أثناء تربعه علي عرش اللعبة في القارة السمراء التي حصد منها ثلاث بطولات أممية متتالية أعوام 2006. 2008. 2010.. ألم يكن ذلك أفضل لشحاته ولمنتخبنا القومي الذي أخفق في الوصول بعدها لأمم أفريقيا ثلاث دورات متتالية في سابقة هي الأولي منذ 30 عامًا.. لو ترك شحاته منصبه الفني وهو في قمة نجاحاته لكان ذلك أدعي لتخليده في سجل العظماء. ولظل مثالاً يُحتذي في مجاله.. لكنه استسلم ــ كغيره ــ لغواية البقاء في موقعه استئثارًا ببريق الشهرة والنجومية والأضواء حتي داهمته شيخوخة الأداء وعقم الفكر وأدركه الفشل.. صحيح أن الكابتن شحاته حقق لمصر ما لم يحققه غيره من المدربين في تاريخ الساحرة المستديرة. لكن الثابت أيضًا أنه حقق خروجًا مهيناً من تصفيات أمم أفريقيا بصورة غير مسبوقة إثر أداء باهت وهزائم غير مبررة أمام فرق أفريقية بلا تاريخ في كرة القدم.. كما فشل المعلم في الوصول بنا لكأس العالم ذلك الحلم الأثير للمصريين رغم أن ذلك كان في متناول يدنا.
وكما جري تكريم شحاتة ورفاقه في منتخب مصر بصورة غير مسبوقة إعلاميا ورسميًا وشعبيًا فقد جري الانقلاب عليه أيضًا بنفس الدرجة وربما أكثر.. ورجمه بالحجارة كلُ من هبَّ ودبَّ.. وتلك من عاداتنا المرذولة في مصر!!
الأمر ذاته قد يتكرر ـ لا قدر الله ـ مع الأسطورة عصام الحضري حارس المنتخب. الذي حقق ما لم يحققه حارس مرمي آخر من بطولات وألقاب آخرها ¢ أحسن حارس في أفريقيا ¢ في بطولة الجابون 2017.. فهل يتعلم الحضري الدرس أم يكرر تجربة شحاتة؟!
في الرياضة كما في السياسة. وغيرها من مجالات حياتنا كلها عرفنا لاعبين ظلوا في الملاعب رغم فقدانهم اللياقة البدنية والذهنية والقدرة علي العطاء والإبداع وتجاوزهم السن المناسبة للاعتزال.. وحتي رأيناهم يجرون أقدامهم بصعوبة ويعجزون حتي عن اللحاق بالكرة أو مجاراة الخصم بعد أن كانوا ملء السمع والبصر وحديث الناس والشاشات ومحط الإعجاب والإشادة.. وبالمثل عرفنا وزراء ومسئولين أمضوا ما يزيد علي ربع قرن يلاحقهم الفشل والشائعات وربما الفضائح خلافًا لما بدأوا به حياتهم من تألق ونجاح.. والسؤال لماذا أصر الناجحون علي البقاء في مواقعهم حتي انقلب نجاحهم فشلاً.. لماذا ساروا عكس تيار الحياة وسننها.. ومن سمح لهم بذلك؟!
في الدول المتقدمة تجارب تستحق النظر والمحاكاة والاعتبار.. نيلسون مانديلا الأب الروحي لتحرر جنوب أفريقيا من العنصرية ومن نير الاحتلال ترك الحكم طائعًا مختارًا بعد ما وضع بلاده علي الطريق الصحيح.. وفعلها مهاتير محمد رائد النهضة في ماليزيا.. وكذلك المستشار الألماني هيلموت كول الذي وحَّد الألمانيتين وأزال سور برلين الذي فرق بينهما.. وترك جوربا تشوف الحكم ـ رغم ما أثير ضده من أقاويل وشائعات واتهامات تصل لحد الخطايا بعدما أعاد للروس حريتهم وكرامتهم.. وغادر أيزنهاور البيت الأبيض بعد انتصاره المشهود علي ألمانيا وتحرير أوروبا من قبضة النازي.. وعلي الطريق ذاته سار تشرشل في إنجلترا وديجول في فرنسا.
بين كل هؤلاء القادة العظام قواسم مشتركة أهمها صناعة النجاح والجماهيرية وبلوغ أقصي درجات المجد.. ثم الزهد في المناصب وعدم التوحد بها أو الوقوع في غواية التأبيد أو جنون العظمة رغم لياقتهم وقدرتهم علي البقاء ورصيدهم الجماهيري الهائل.
هؤلاء العظام خَلَّدهم التاريخ لأنهم بقدر ما أعطوا وحققوا من نجاحات.. أدركوا ضرورة أختيار اللحظة المناسبة لترك المناصب قبل أن تتركهم فاحتفظوا بحب الناس دون أن ينالهم سوء أو يهيل أحد علي إنجازاتهم التراب.
الاعتزال لحظة تاريخية فارقة في حياة أي لاعب. سواء في السياسة أو الرياضة أو الفن وغيرها. وقد تكون تاجًا فوق رأس صاحبها أو عارًا يلاحقه ما بقي من عمره.. فإن ترك موقعه طواعية في قمة عطائه ومجده فسوف يسجل اسمه بأحرف من نور في تاريخ الخلود. كما فعلها النجم محمود الخطيب ومن بعده أبو تريكة.. أما إذا عاند سنة الحياة وأراد احتكار النجومية واستمرأ الأضواء والشهرة فسوف يحترق بنارها مضطرًا.
أتصور أن لكل شيء نهاية كما له بداية.. والعبرة دائمًا بالخواتيم.. فماجدوي أن يحقق شخص نجاحًا مدويًا أو ثروة هائلة أو مجدًا وشهرة فائقة ثم ينتهي به الأمر سجينًا أو مهانًا أو ملعونًا في كتب التاريخ.. أو منسيا في زوايا التجاهل والإهمال..
في حياتنا أمثلة كثيرة.. في الصعود نحو القمة أو السقوط إلي الهاوية.. في ثقافتنا فضيلة ¢ غائبة ¢ اسمها الزهد والاكتفاء وإعطاء الفرصة للآخرين والإيمان بضرورة تداول المناصب والمواقع وتعاقب الأجيال فالقدرة علي العطاء هي الفيصل وليس الرغبة في البقاء والإقصاء والتكويش علي كل شيء.. العدالة في تداول المناصب وتناقل الخبرات وتلاقح الأفكار وضخ دماء جديدة باستمرار في شرايين الحياة هي الضمان الأكبر لاستمرارية النجاح وبقاء الدول علي القمة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف