لقد أصابتني الدهشة والحيرة وأنا أقرأ مقالًا نشرته الأهرام السبت في 28 يناير 2017م، للدكتور أسامة الأزهري بعنوان: (أمر يدع اللبيب حيران) وكنت أعتقد أن "الدكتور أسامة" ابن الأزهر يتابع جهود الأزهر الشريف بسفينته التي تتحرك وسط أمواج عاتية منذ أكثر من ألف عام ويقذفها المغرضون والمتربصون كل يوم بالافتراءات والاتهامات دون دليل أو برهان ليغرقوها في اليم كما يريدون وتخلو لهم الساحة ليفعلوا بالوطن والدين ما يشاؤون.
كنت أظن أن ابن الأزهر تصيبه الحيرة من أفعال هؤلاء فيشمر عن ساعديه ليحمى منهج معهده ورسالته التي يحملها دينيًا ودستوريًا وهي حفظ بيضة الدين وعقول أبناء الوطن من التطرف والغلو والتكفير والإرهاب كما هو الواجب على كل أزهري مخلص لوطنه ودينه فالوطن أمانة ومصالحه العليا لا يمكن أن يتخلى عن حمايتها أي أزهري.
إلا أنني وأنا أقرأ سطور المقال غمرتني الدهشة وزادت لدى الحيرة، فالمقال بمثابة كلام مرسل يتضمن مقاطع من تاريخ الأزهر الوطني قديمًا فقط، ثم يغلف باتهام مبطن للأزهر وعلمائه حديثا فيدعي: (إن الوطن يستنجد بالأزهر الآن ويلح عليه ويطالبه ويلمح ويصرح ويستنهض ويستغيث لكن الأزهر لا يجيب) ثم يحصر عمل الأزهر الحاضر وجولات رجاله وعلمائه في (أجنحة أقامها بالأمس في معرض الكتاب دون القفز -حسب نص كلامه- إلى مستوى الحساسية والجد والخطر الذي يحيط بالوطن).
وبعد اتهام الأزهر بعدم إحساسه الوطني وتبلده ينادى الكاتب الأزهري هذا الذي تربى فيه وشرب من علم علمائه المعاصرين قائلا: (أيها الأزهر: أخاطب فيك اليوم عدد رجالك انهض إلى عمل يليق بالتاريخ ويسعف الوطن والدين) انتهى.
أقول للدكتور أسامة: هل ترى بهذا أنك وصفت حقًا عمل إخوانك وأساتذتك في الأزهر وحكمت حكمًا يليق بعملهم؟، ووطنيتهم وأنت تقول: ليس لديهم إحساس بالوطن وكل ما فعله الأزهر مشيخة وجامعة وعلماء وأساتذة طوال السنوات هذه التي تجوب فيها الفتن البلاد يحصر فقط في إقامة أجنحة بالمعرض وجولات رجاله لا تبارح معرض الكتاب؟!
هل هذا هو رد الجميل للأزهر الذي احتضنك منذ أن كنت في المهد صبيا وعلمك ما لم تكن تعلم بفضل رب العالمين؟ هل هذا إنصاف وشهادة حق تقابل بها أيها الأزهري ربك؟ أين موقعك بجوار قوله تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا)؟ ثم إن معرض الكتاب لم يمر عليه ساعات وأنت تكتب اتهاماتك هذه للأزهر فجر السبت والمعرض بدأ الجمعة وعليه فعمل الأزهر صفر في المائة حسب تقييمك هذا!!
وعمومًا دعنا من هذا، وتعالى إلى مسألة عدم إحساس الأزهر بوطنه ودينه! من الذي وقف مع الوطن في ثورتيه الكريمتين أليس مشيخة الأزهر؟ من الذي ساند الرئيس وهو يلقي بيان الثالث من يوليو في حفظ الوطن وأمنه أليس هو الإمام الأكبر شيخ الأزهر؟ أين كنت حين ترك أستاذك الأكبر مراسم تنصيب رئيس الإخوان في قلب جامعة القاهرة وغادر خطابه ورجال دولته وولى ظهره له في كل عزٍ وفخر أليس هذا هو شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الذي تتهم المؤسسة التي هو على قمتها الآن بعدم الوطنية؟ ثم من الذي منع سيطرة الإخوان على جامعة الأزهر ومنصب الإفتاء أليس هو شيخ الأزهر؟
أين كنت يا دكتور أسامة -أيها الحيران الآن- وقتها؟ ألم تكن مختبئًا لم نسمع بك أو عنك خبرا؟ ثم من رسخ الوحدة الوطنية في مصر ومن أقام بيت العائلة ومن أنشأ بيت الزكاة لينقذ الفقراء والمنكوبين في الكوارث؟ من أعاد للأزهر هيبته وجعل رؤساء الدول الكبرى يقفون إجلالا وهيبة عند أحاديث إمامك الأكبر؟ أليس الأزهر وشيخه؛ فهل بعد كل هذا فقد الأزهر حسه الوطني كما كتبت يا دكتور أسامة؟
أما في الجانب الديني: فالأزهر هو أول من أقام مؤتمرا عالميًا للرد على الإرهاب والدواعش في العالم كله، ولنفس الغرض ولأول مرة أنشأ مرصد الأزهر بلغات عشر ليخاطب العالم ويفسد عمل المبطلين، ويقيم مركزًا إلكترونيا عالميا للفتوى ليفيد المسلمين في الداخل والخارج، ويطور المناهج بيد خيرة من الخبراء المخلصين، ويتابع تطوير دراسات وأفكار الوافدين بنفسه وتدريبهم ليكونوا سفراء الأزهر والإسلام للعالم.
من الذي بدأ أول مبادرة حقيقية في الحوار بين الشرق والغرب؟ من الذي أطلق الحوار المجتمعي في شتى ربوع مصر وحرك عمائم شبابه الزاهرة كالنحلة التي تقطر شهدًا في عقول شباب الوطن؟ من الذي ابتكر منهجا جديدًا باسم الثقافة الإسلامية تناقش بسهولة ويسر كبريات القضايا التي تشغل بال المجتمع والوطن كالتكفير والحاكمية والإرهاب والجهاد والمواطنة إلخ؟ ويحصن به عقول أبنائه وشبابه، ويدرس كمقرر رسمي في المراحل قبل الجامعية وستكون أيضا قريبًا في مقررات الجامعة.
فهل هذا كله يدفن ويوارى عليه الثرى كما كتبت في مقالك يا دكتور أسامة ولخصته في إقامة جناح للكتب في معرض الكتاب؟! أليس إفتاؤك وإنكارك على الأزهر العريق في صحيفة كبيرة موقرة هو الذي يدع اللبيب حيران لو حق لنا أن نستعير عنوان مقالك.
ثم ما المانع أن تتفضل يا دكتور أسامة بدخول الأزهر، وتخاطب أساتذته ومشايخه الذين تعلمت منهم وجهًا لوجه وتقدم مقترحاتك التي تراها مفيدة وتجعل الأزهر عنده حس وطني لدينه وبلده بدلا من أن تخاطبهم في عدة مقالات سطحية وعلى أوراق الصحف وأنت خارج أبواب الأزهر وأسواره؟
ولماذا تمتنع يا دكتور أسامة عن تقديم خططك وأفكارك هذه، وتحاول جاهدا أن تصور للناس كما جاء في مقالك أن الأزهر ليس لديه حس وطني ولا ديني وأن الوطن يستنجد به تلميحا وتصريحا ولا مجيب؟ هل مكتوب على أبواب المشيخة أو الجامعة عبارة: للكبار فقط أو ممنوع الاقتراب والتصوير؟ ثم ماذا فعلت يا حضرة المدرس بجامعة وقد أجلستك الدولة في عدة قنوات فضائية فلما لا تختبئ داعش وينتهي التطرف حتى الآن؟
ودعني أهمس في أذنيك بسؤال يحيرني: لمصلحة من هذا التنكر المفاجئ لأساتذتك وشيوخك من علماء الأزهر الشريف؟! ألم تقرع سمعك يا دكتور الحكمة الخالدة: من تعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه، واسأل من قبلك ممن مشي في هذا الطريق لعلك ترعوي؛ والله بالفعل هذا أمر محير يجعل اللبيب حيرانا في زمن يغبط فيه العدل ويتفشى فيه العقوق وتغيب كلمة الحق عن الألسنة بدون وجه حق.