ليالي الشتاء فرصة لقيام الليل، الذي هو عنوان الصالحين، وأيامه مشجعة على الصيام، باعتباره "غنيمة باردة"، أما إسباغ الوضوء على المكاره، في شدة البرد، فهو من أعلى خصال الإيمان، لا سيما في موسم الشتاء، الذي نواصل الإبحار عبر مياهه العذبة، وانتقاء الثمار الحُلوة من بساتينه، وشمّ الروائح العطرة من رياحينه.
أما قيام ليل الشتاء فنظرا لطوله، إذ يمكن أن تأخذ النفس حظَّها من النوم، ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة، فيقرأ المُصلي ورده من القرآن، ويجتمع له نومه المُحتاج إليه، وإدراك ورده القرآني الكريم، فيكمل له مصلحة دينه، وراحة بدنه، حسبما قال العلماء.
وفي فضل قيام الليل، واتصاف المؤمنين به، قال سبحانه: "تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ". (السجدة: 16).
هذا الفعل (التجافي عن المضاجع) يضاعف من الثواب عليه أن تكون المشقة فيه أشد، وهي شدة البرد، لا سيما أن النفس تميل عند ذلك إلى استطابة الرُّقاد في الفراش، والالتذاذ بدفئه، وعدم تركه.
وفي وصف عباده المؤمنين، قال تعالى أيضًا: "كَانُوا قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ". (الذاريات: 17). وقلة "الهَجْع" بهدف إحياء ليالي الشتاء، هو مما لا يقدر عليه كثير من الناس، في هذا الزمان، وواقع حالهم يدل على ذلك أبلغ الدلالة.
وفي السياق نفسه، رغّب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قيام الليل، في كثير من أحاديثه، وتوجيهاته لأمته.
من ذلك ما رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: "قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". (رواه مسلم).
أما صيام نهار الشتاء، فيصفه، أيضا، أبو هريرة، رضي الله عنه، فيقول: "ألا أدلكم على "الغنيمة الباردة"؟ قالوا: بلى، فقال: "الصيام في الشتاء"، ومعنى كونه "غنيمة باردة"، أنها غنيمة تحصل بغير قتال، ولا تعب، ولا مشقة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة: عفوًا، وصفوًا، بغير كُلفة.
فعلينا، إذن، والأمر هكذا، أن نكثر من الصيام في فصل الشتاء، لا سيما الأيام الثلاثة البيض (الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، على القول الراجح، من أواسط كل شهر هجري).
وكذلك صيام يومي الإثنين والخميس، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: "كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتحرى صوم الإثنين والخميس". (رواه الترمذي. وقال: حديث حسن).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال في فضل صيام يومي الإثنين والخميس: "تعُرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعُرضَ عملي، وأنا صائم". (رواه الترمذي. وقال: حديث حسن).
أما الخصلة الثالثة من خصال الإيمان في الشتاء، فهي إسباغ الوضوء على المكاره في البرد، بل اعتبرها عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من أعلى خصال الإيمان.
فقد روى ابن سعد بإسناده عنه، رضي الله عنه، أنه وصَّى ابنه عند موته، فقال له: "أي بني: عليك بخصال الإيمان". قال: وما هي؟ قال: "الصوم في شدة الحر أيام الصيف، وقتل الأعداء بالسيف، والصبر على المصيبة، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي، وتعجيل الصلاة في يوم الغيم، وترك "ردغة الخبال". قال: "وما ردغة الخبال؟"، قال: "شرب الخمر".
وفي فضل إسباغ الوضوء على المكاره، ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: "بلى، يا رسول الله"، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة.. فذلكم الرباط". (رواه مسلم).
وفي الحديث، أيضًا، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: "سمعت خليلي يقول: "تبلغ الحِلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". (رواه مسلم).
هذا على وجه العموم والإجمال، فكيف بمحو الخطايا، ورفع الدرجات، إذا كان إسباغ الوضوء على المكاره، الوارد الترغيب فيه بالحديث، يترافق مع البرد الشديد؟