الجمهورية
د. محمد مختار جمعة
التجديد مرة أخري
سيظل الحديث عن تجديد الخطاب الديني مفتوحاً وفضفاضاً حتي نتمكن من وضع ضوابط تقرب علي أقل تقدير مفاهيم التجديد ومساحته ومجالاته ورجاله وأهله. وإن كان قد بدا يتبلور لدينا رؤية تتلخص في أن التجديد إنما يكون في مستجدات العصر من القضايا المستحدثة أو تلك التي يخضع الحكم فيها لظروف الزمان والمكان والأحوال. وهذا التجديد ليس بدعاً في الدين. فقد أسس الإمام الشافعي رحمه الله لمذهبه في العراق. فلما انتقل إلي مصر ورأي بها ما رأي من تغيير طبائع الناس وظروف حياتهم عدل عن بعض آرائه الفقهية التي أفتي بها في العراق إلي رؤية تتناسب والبيئة الجديدة التي وفد إليها. فعرفت آراؤه الفقهية التي أفتي بها وبني عليها أسس مذهبه في العراق بالمذهب القديم. وعرفت آراؤه الفقهية التي أفتي بها في مصر واستكمل بها أصول مذهبه بالمذهب الجديد.
فماذا لو عاش الشافعي "رحمه الله" إلي يومنا هذا ورأي ما نري من تغير الزمان والمكان والطبائع مع مستجدات العصر ومستحدثاته وتغير موازين القوي فيه؟
ونؤكد أن هذا التجديد يعني الخروج من دائرة الجمود وتقديس غير المقدس إلي آفاق أوسع وأرحب في الفقه والثقافة والرؤي. مع الحفاظ علي ثوابت الدين وأصوله وقواعده الراسخة المستقرة في وجدان الأمة مما تواتر عند أهل العلم والاختصاص وتلقته الأمة عبر تاريخها الطويل بالارتياح والقبول فصار معلوماً أو أشبه بالمعلوم من الدين بالضرورة مع توافر أدلته الشرعية الصحيحة الثابتة المعتمدة عند أهل العلم والاختصاص وصار الاعتداء عليه أو النيل منه اعتداء علي عقيدة الأمة وتاريخها وحضارتها وكيانها المستقر مما يشكل خطراً علي تماسك بنيتها ونسيجا المجتمعي. كتلك الدعوات المغرضة الآثمة الداعية إلي خلع الحجاب تارة. وإلي اعتبار ممارسة الجنس قبل الزواج بدون ضابط شرعي ولا قانوني حرية شخصية مما يعد شذوذاً في الفكر والثقافة والطرح والتناول وخروجاً علي قيم المجتمع وأخلاقه وعاداته وتقاليده. حتي وإن اختلف معتقدهم أو تنوعت مشاربهم العلمية والثقافية والفكرية والأيديولوجية. لأن الشذوذ الإنساني ترفضه الفطرة السوية "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" "الروم: 30".
وكأنموذج راق للتجديد في الفكر والرؤية والطرح والتناول ومراعاة ظروف العصر وطبيعته ومستجداته. أطرح نموذجاً هادئاً هادفاً بلا صخب أو ضجيج. حيث التقيت أثناء سفري إلي دولة الإمارات العربية الشقيقة لحضور منتدي تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بالأستاذ الدكتور/ محمد إبراهيم الحفناوي أستاذ الفقه بجامعة الأزهر الشريف وتناقشنا نقاشاً علمياً موسعاً حول بعض القضايا العصرية والمستجدات المتعلقة بقضية الحج. ثم أهداني فضيلته نسخة من كتابه "زاد المسافر إلي الحج والعمرة" ودفع إلي معه ببعض قصاصات ورقية موثقة لما تناقشنا فيه حول قضية من أهم قضايا الحج التي يكثر الجدل فيها سنوياً. وهي قضية ترك المبيت بالمزدلفة والنزول إلي مكة لطواف الإفاضة. فقد ذكر الدكتور الحفناوي نقلاً عن هداية السالك إلي المذاهب الأربعة في المناسك للإمام العلامة عز الدين بن جماعة المتوفي سنة 767ه 1051م ما يلي "لو أفاض من عرفات إلي مكة وطاف للإفاضة بعد نصف ليلة النحر ففاته المبيت بمزدلفة لسبب الطواف لا شيء عليه كما قال الشافعية لأنه اشتغل بركن". ثم يقول ابن جماعة في كتابه "هداية السالك" ومن مر بمزدلفة ولم ينزل بها فعليه دم وإن نزل بها ثم دفع منها في أول الليل أو في وسطه أو في آخره وترك الوقوف مع الإمام أجزأه ولا دم عليه".
ونقل الدكتور الحفناوي قول المالكية "زمان الوقوف في أي جزء من أجزاء الليل بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين وتناول شيء من الأكل والشرب" فماذا لو عاش ابن جماعة ومن قال من المالكية بالرأي المذكور إلي زماننا هذا ورأوا ما نري من الزحام والمشقة والتعب والنصب وقصور الهمم. وعليه قال الشيخ الحفناوي وإن المبيت بمزدلفة لا يوجد إجماع علي أنه واجب. حيث قال بعض الفقهاء إنه سنة. وعليه من ترك المبيت بمزدلفة فلا شيء عليه ولا سيما إذا كان ذلك لمرض أو ضعف أو كبر سن.
ولا يعني ذلك علي الإطلاق أننا أو أن أحداً من هؤلاء الفقهاء يدعو إلي ترك المبيت بمزدلفة غير أننا لا نريد أن نشق علي الناس في أمر عبادتهم. والدين قام علي دفع المشقة ورفع الحرج. والأمر علي السعة. فمن قدر علي المبيت بمزدلفة ثم انصرف بعد صلاة الصبح إلي المشعر الحرام ثم انطلق قبل طلوع الشمس إلي مني فقد أصاب السنة علي وجهها الأكمل متي قوي علي ذلك وتيسر له. ومن أخذ برأي القائلين بأن الوجود يتحقق بالبقاء في المزدلفة علي قدر صلاة العشاءين وتناول شيء من الطعام والشراب فلا حرج عليه. وهو قول يتفق مع روح الشريعة المبنية علي اليسر خاصة مع الأعداد الغفيرة للحجاج في هذا العصر. إذ لو لم يفت بهذا لشققنا علي الناس كثيراً. لكن إن قلنا بجواز ارتحال الناس أفواجاً من أول الليل إلي آخره يتبع بعضهم بعضاً فسنسهم في رفع الحرج عنهم ونكون قد طبقنا قوله تعالي: "وما جعل عليكم في الدين من حرج". وقوله تعالي: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر".
وبالكتاب وفيما تناقشنا فيه نماذج أخري لهذا الفكر المستنير مما قد يتسع له حديث آخر أو موقف آخر يتسع لتفصيلات علمية لا مجال لها في مثل هذا المقال الذي أردنا أن نضرب من خلاله أنموذجاً تطبيقياً يؤكد ان العقلية الأزهرية قادرة علي استيعاب المستجدات وحمل لواء التجديد لا احتكاره.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف