المساء
محمد جبريل
شخصيات هامشية
أذكر قول نجيب محفوظ ان عنايته بالشخصيات الهامشية والثانوية لا تقل عن عنايته بالشخصيات الرئيسية: أم حنفي بائعة الدوم بائع الصحف جرسون القهوة الجندي جوني شيخ الحارة.. انه يحرص علي ان تكون ضمن ملفات الشخصيات الروائية تتناثر في سياق العمل بما يضيف إليه ولان أم مريم مثلت اضافة غير محسوبة للأحداث فقد اسقطها الفنان بالموت!
بالاضافة إلي النوته الصغيرة كان يضعها نجيب محفوظ في الجيب العلوي للجاكت فانه كان يحرص ان يضع ملفات لشخصيات الرواية وتطورات أحداثها متي تظهر الشخصيات؟ ومتي تختفي؟ وإلي أي حد يظل الفنان ممسكاً بخيوط العمل لا يفلته إلا وفق إرادة مسيطرة هي إرادة الفنان.
وإذا كان نجيب محفوظ قد حدد سن الثامنة عشرة موعداً لوفاة نعيمة في ثلاثية "بين القصرين" فان سواها من الشخصيات خضعت لذلك التنظيم الصارم الذي وضعه الفنان مثل ظهور الشيخ متولي عبدالصمد في بداية الثلاثية تخاطب أحمد عبدالجواد- بجرأة تمليها الشيخوخة- وظهور الشيخ في نهاية الرواية يسأل عن الميت الذي تعيشه الجنازة: من هو؟ وكان ذلك الرجل هو أحمد عبدالجواد ومصادفات أخري معتمدة بعضها يبلغ حد السخف مثل وفاة أم مريم بأمر السماء وظني ان الأمر كان قد اتخذه الفنان حتي لا تشكل المرأة نتوءاً في مسار الرواية استلهاماً- ربما- من طريقة يوسف وهبي في التخلص من شخصياته التي أدت ادوارها.
وقبل ان يبدأ نجيب محفوظ في اعداد ملفات الثلاثية فاني أجده قد تنقل- بعيني الفنان- في شوارع الحي وميادينه وحواريه وأزقته وأقبيته وبين بيوته ومساجده وزواياه ودكاكينه ومقاهيه يتأمل كل شيء بدقة يبحث عن المعالم التي ستكون قواماً لروايته.
لان بيت بين القصرين كان يطل علي شارعين هما بين القصرين والنحاسين فقد اختار قصر بشتاك لسكني أسرة أحمد عبدالجواد تطل أمينة من مشربيته علي الشارعين المتوازيين يفصل بينهما سبيل وثمة بائع العصير والمقهي ونداءات الجرسون والباعة.
هل كان ذلك هو السبب في عرض صلاح أبوسيف علي محفوظ ان يكتب للسينما؟
قال أبوسيف ان اختياره لمحفوظ وحرصه ان يدرس له فن السيناريو مبعثه لغة السينما التي كانت تعبر عنها روايات محفوظ وبالذات في روايات الواقيعة الطبيعية خان الخليلي والقاهرة الجديدة وزقاق المدق.
قدمت أسرة عاكف إلي خان الخليلي فراراً من غارات الانجليز علي حي السكاكيني وغادرته بعد ان مات الابن رشدي وعرف أبواه وشقيقه الأكبر ان الحذر لا ينجي من قدر.
وكانت المقدمة الموجزة في أولي صفحات عن زقاق المدق اشبه برفع الستار عن ذلك المكان المتميز في القاهرة الفاطمية وتتوالي الأحداث بحيث يشكل مصرع عباس الحلو نهايتها القاسية ويسدل الستار بعد ان يودع الفنان الزقاق بكلمات مؤثرة تعيدنا إلي كلمات التقديم وبدأت "بداية ونهاية" بموت الاب وانتهت بدفع نفيسة إلي الانتحار.
أما أمينة فقد طالعتنا في أولي صفحات الثلاثية ثم اختتمت الصفحات بالمرأة نفسها دورها المهم تخلل الأحداث- علي نحو وآخر- حتي اللحظة التي تهيأ فيها ياسين لشراء ملابس المولود بينما عني كمال بشراء كرافت ترقبا لرحيل الام بعد ان ادت دورها في الحفاظ علي تماسك الأسرة.
المثل لا أقصره علي محفوظ.
ثمة أدباء عالميون يحرصون علي التصور المسبق من خلال ملفات تتضمن الشخصيات والأحداث فيأتي العمل في النهاية معبراً عن معان أو دلالات محددة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف