المصريون
جمال سلطان
جناية القوى المدنية على الديمقراطية في مصر
على مدار ما يقرب من نصف قرن ، ومنذ نهاية عصر الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر ، وانكسار هيمنة أجهزته الأمنية ومنظماتها على النشاط السياسي العام ، وبدء حراك شعبي حر ـ نسبيا ـ وخارج أطر السلطة وصناعتها الأمنية في بداية عصر السادات ، كان التيار الإسلامي ، بكل تشعباته يمثل التيار الشعبي الأوسع والأكثر حضورا في المشهد وفي الشارع وفي المجتمع ، وتدريجيا تحولت التيارات السياسية الأخرى إلى نخب سياسية مستأنسة وتعمل في ظل الأنظمة المتعاقبة التي فتحت لها كوات صغيرة في العمل الحزبي أشبه بنوادي ثقافية منها بالأحزاب السياسية بمفهومها الحديث ، وحتى في ثورة يناير ، كان واضحا أن قوة الحشد والحضور كانت لأبناء هذا التيار ، وليس مجهولا أن موقعة الجمل ، وقد شهدتها بنفسي ، حمل فيها مسئولية الدفاع عن الميدان بالكامل تقريبا شباب التيار الإسلامي ، بمختلف تشعباته ، وإن كان قد شارك فيها أيضا أفراد من تيارات مختلفة ، كما أن الممارسة الديمقراطية المحدودة قبل الثورة ـ في عصر مبارك ـ كانت كاشفة على أن هذا التيار هو ـ وحده ـ القادر على الحشد الشعبي والقادر على حصد مقاعد البرلمان انتزاعا من ترتيبات الأجهزة الأمنية ، وكانت كل الأحزاب المعارضة تخطب وده وتتسابق للتنسيق معه لكي تدخل ـ على كتفه ـ إلى البرلمان ، وبعد ثورة يناير كان واضحا بشكل أكبر أن هذا التيار هو الأكثر قدرة على المشاركة الشعبية الفعالة وحقق نسبا تتراوح بين الخمسين في المائة والسبعين في المائة في جميع الاستحقاقات التي تمت ، سواء البرلمانية أو الرئاسية أو الاستفتاءات . لماذا أقول هذا الكلام ؟ ، على وجه القطع لا أقوله من باب المباهاة أو الزهو السياسي ، لا يخطر على بالي ذلك الآن ، ولا قيمة له في ظل ما تعيشه البلاد ، وإنما أذكر به الجميع إذا كنا راغبين حقا في رسم ملامح مستقبل سياسي جديد لبلادنا ، أكثر رشدا وفاعلية وقدرة على تأسيس ديمقراطية راسخة وناضجة ومثمرة ، فمثل هذا التيار الضخم والذي يقدر "الناشطون" خلاله بالملايين ، وليس بالآلاف ، لا يمكنك تجاهله عندما تفكر في ديمقراطية أو نظام سياسي حديث ، مهما كانت كراهيتك له أو عدم اتفاقك معه في رؤى عديدة ، يستحيل أن تنجح أي جهود ديمقراطية تفكر في تخطي هذه الكتلة الحرجة والمرجحة والفاعلة ، وفي المقابل ، فإن بقاء تلك الكتلة الشعبية السياسية الضخمة خارج السياق السياسي وخارج أي مشروع ديمقراطي ، سواء للسلطة أو المعارضة ، فهذا يعني أنه مشروع محكوم بالفشل مسبقا ، وسيكون أقرب للديكور السياسي منه لحياة سياسية حقيقية حرة ومتوازنة ومتجذرة في الناس ، لأن أساس الديمقراطية هو الشعب ، المواطن ، ونجاحها مرهون بوجود توافق وطني على قواعد عامة مشتركة في الجميع ، يطمئنون إليها ، ويحترمون معطياتها حتى لو اختلفت في بعض مخرجاتها مع ما يؤمنون به . لست هنا معنيا بالخطاب مع السلطة ، وإنما مع القوى الوطنية والمدنية بشكل عام ، أحزاب ونخب ونشطاء ومجتمع مدني ، لا بد من بذل الجهد الحقيقي الجاد والبناء في هذا المجال ، لا يصح أن تبقى تلك القوى تصنع خنادق لتترس بها في مواجهة التيار الإسلامي وقواه المختلفة ، لا يليق أن يكون موقف تلك النخب والقوى المدنية هو هجاء التيار الإسلامي واصطياد أخطائه والتشهير بقلة خبرة شبابه السياسية ، هذا لا يفيد أبدا ، ولا يثمر في شيء عملي ، هذا أشبه بمعارك لعبة الشطرنج ، تشفي نفسك بهزيمة الآخر ، ولكنها معركة وهمية لا قيمة لها في الواقع ، وإنما التحدي الحقيقي في قدرة القوى المدنية على التواصل مع هذا التيار الضخم ، وفهم خطابه عن قرب ، وإيصال خطابهم إليه عن قرب أيضا ، فربما اكتشفوا أن أغلب الشقاق والعداء هو سوء فهم ، وقلق من نوايا ، ووساوس ، وحتى في الاختلافات الأهم فكريا أو سياسيا قد يكتشف الجميع أن ثمة قدرة كبيرة على تقريبها أو تحييدها أو احتوائها في نقاشات أو حوارات مسئولة ، إن لم تخرج بتطابق وجهات النظر بعدها ستخرج بتقارب مؤكد ، وربما التماس أعذار للمختلف ، وربما تنجح في إضاءة جوانب من صورة الشأن العام كانت غائبة عنه أو غير مدرك لها ، وقد علمتني خبرة الحياة ، وخاصة في الساحة الفكرية والسياسية أن القرب والتواصل الإنساني وفهم الآخر بدون وسائط يغير انطباعك عنه تماما ، ويقرب الخواطر ، ويصنع جسورا من الاحترام والتقدير مهما بقي الخلاف . أفهم أن تكون القوى الكارهة للديمقراطية ، بأدواتها وأجهزتها وإعلامها ، حريصة على تصيد الأخطاء وإثارة الحروب الفكرية والأيديولوجية بين قوى المجتمع المختلفة ، الإسلامية والمدنية ، على طريقة المبدأ التخريبي الشهير : فرق تسد ، ولكني لا أفهم أن يكون جهد القوى المدنية الحريصة على تأسيس توافق وطني وديمقراطية وسلام اجتماعي ونضال من أجل الحرية والكرامة والتعددية منصبا على المناوشة وتصيد الأخطاء والهجاء واستعراض القدرة على الاستظراف والسخرية ، والنظرة المتعالية على الواقع والناس والمخالف واعتبارهم جهلة ومتخلفين ، وهي مواقف تصلح للمقاهي وجلسات السمر ، ولا تصلح لقوى سياسية ناضجة وجادة معنية بالواقع وإصلاحه وتفعيله وتطوير إيجابياته والصبر على معالجة سلبياته ، وتفكر فعليا في تأسيس مستقبل أفضل للوطن وناسه . باختصار ، لا ديمقراطية بدون مشاركة التيار الإسلامي ، وطالما أنك لا تستطيع أن تلقي بهذه الملايين المؤيدة له في البحر أو أن تضعهم في معسكرات اعتقال بطول الوطن وعرضه أو تصنع لهم محارق الغاز على طريقة النازي ، فليس أمامنا سوى استيعاب هذا التيار والتفكير الجدي في دمجه في حراك سياسي سلمي وديمقراطي وتعميق التواصل معه لجعله قوة دفع إيجابية لتطور المسار الديمقراطي ، بدلا من أن يكون حجر عثرة في سبيله أو أن تخسر قوى التغيير طاقة هائلة كان يمكن أن تكون داعمة للتطور الديمقراطي لو أحسنا دمجها وتخفيف هواجسها واستيعابها في فضاءات سياسية عاقلة وحكيمة .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف