الوطن
ناجح ابراهيم
د. عمر عبدالرحمن.. كما عرفته
إذا أردت أن ترى الألم متجسّداً فى إنسان، فيمكنك أن تراه فى حياة «د. عمر»، فقد كف بصره وهو طفل صغير، ولما بلغ سن الشباب تلقفته دهاليز السجن، واحداً تلو الآخر، وكذلك تلقفته الأمراض، واحداً تلو الآخر، بدءاً من السكر والضغط، وانتهاءً بسرطان البنكرياس، الوحدة القاتلة التى فرضها عليه السجن الانفرادى الأمريكى كانت أقسى عليه من كل السجون المصرية التى لاقى فيها أهوالاً يشيب لها الولدان عدة أشهر، ثم انفرجت الأحوال وعومل معاملة راقية جداً، فقد أمر الوزير «أبو باشا» وقتها بإيداعه مستشفى السجن طوال فترة المحاكمة، كان تلاميذه وأصدقاؤه معه وحوله فى كل السجون المصرية التى ذهب إليها من ليمان طرة، إلى السجن الحربى، ثم سجن الفيوم، ثم سجن قنا، كان يأنس بهم ويأنسون به، وينسى وحدته وينيرون حياته.

إذا أردت أن ترى العزيمة والهمة العالية متمثلة فى شخص يمكنك أن تراها فى «د. عمر»، طفل كفيف يتغلب على أشق وأصعب عاهة، يتفوق فى دراسته، هو الأول دائماً، لا يخشى الفقر ولا يهتم به، ينتقل فى شبابه وفى شيخوخته فى قطار الدرجة الثالثة وما أدراك ما هذا القطار، يقول لتلاميذه: ألقونى من الشباك وسأتصرف وحدى.

كان غاية فى النظافة والأناقة والدقة والترتيب، عمامته وجبته غاية فى الشياكة حتى وهو فى السجن، يصوم يوماً ويفطر يوماً رغم كل أمراضه، يصلى قيام الليل بجزء كامل، صوته كالموسيقى، وهو بالمناسبة لم يكن يحرمها كما يتصور البعض، كان يُحرم التفحش فقط الذى يعرفه الجميع وينكره، كان صوته فى القرآن يهز القلوب والأفئدة، لا حياة له إلا مع القرآن الذى عاش معه طالباً صغيراً، وشاباً فى قسم التفسير بأصول الدين، فمعيداً، فأستاذاً.

تختلف مع «د. عمر» أو تتفق معه، لكنك إذا صليت خلفه شعرت بالقرآن غضاً طرياً، كأنه أوتى مزامير داود عليه السلام، لا يفوته القيام أبداً مهما كان متعباً أو مريضاً.

أما عن صبره فحدث ولا حرج، لا يجزع أبداً فى الوقت الذى كنا نرى فيه الرجال الأشداء يجزعون لسجن بضعة أشهر، وهم فى غاية القوة الدينية، لكن أفئدتهم هواء، أى صبر وجلد وتحمل ذاك الذى تراه فى هذه الشخصية، يمكنك أن تختلف أو تتفق معها، لكنك ستنحنى إكباراً لصبر هذا الرجل وجلده الذى فاق الحدود، بداية من صبره على كف البصر وطلب العلم وتحمل أهوال السجون وتحدى الرؤساء واحداً تلو الآخر.

كان «د. عمر» عالماً أزهرياً وسطياً فذاً حتى رحب بعرض شباب الجماعة الإسلامية أن يكون قائداً لها أو مرشداً، كانت هذه بداية الضرر الفادح الذى لحق به وبشخصه وأسرته وبدعوته وعلمه.

نُسبت كل أعمال الجماعة الإسلامية العنيفة إلى «د. عمر» بغير حق. «د. عمر» برىء من دم «السادات» ومن كل الدماء التى أريقت وقتها أو بعدها، لأنه فى الحقيقة كان هارباً فى مكان لا يعلمه أحد حتى قُبض عليه بعد كل هذه الأحداث، لم يعلم بها، لم يُستشر فيها، لم يفتِ لها، حتى المحكمة العسكرية العليا برأته تماماً، وكذلك محكمة أمن الدولة العليا طوارئ.

«د. عمر» وقع ضحية الحماسة اللامحدودة وغير المنضبطة لجيلنا من الشباب، نحن من غرر به ونحن نحبه، فدخل السجن بسبب شباب الجماعة الإسلامية قليل الخبرة والتجربة والمفرط فى الحماسة.

وفى أمريكا غرر به «عماد سالم المصرى»، عميل المباحث الفيدرالية، وهو يكرهه، حيث ظل شهوراً يستنطق «د. عمر» فى قضايا وهمية ما كان للدكتور عمر أن يجيبه، لكن ما الحيلة وقد كف بصره وكان وقتها لا يعرف المجتمع الأمريكى جيداً ولا يعرف من حوله أو يدرك أن هناك متطرفين وخونة أيضاً فى أمريكا.

صرّح عدة مرات بأن السجن فى أمريكا -رغم خلوه من التعذيب- أقسى من السجون المصرية، كان وقته مشغولاً ببعض تلامذته وحوارييه هنا، يدرس ويكتب ويناقش ويُستفتى حتى فى السجون، هناك ليس معه إلا الراديو.

«د. عمر» كإنسان بصرف النظر عن فكره السياسى أو الإسلامى غاية فى التميّز، ولولا أن قيادته للجماعة الإسلامية خصمت من رصيده وحملته بأحمال جسام أثقلت كاهله لكان له شأن آخر.

خلصت فى نهاية عمرى: «أن العالم والداعية والمفكر لا ينبغى عليه الانضمام أو الانخراط فى جماعة أو حزب، أو حتى يكون منتمياً إلى الحكومة، عليه أن يكون مع الناس جميعاً سواسية، ليس مع أحد، وليس عدواً أو خصماً لأحد، يُقرب الخلق إلى الحق».

وينبغى على شباب الإسلاميين ألا يضغطوا على العلماء والدعاة ليكونوا بينهم أو يلزموهم بعداوة الحكومات والدول وإلا سلقوهم بألسنة حداد ورموهم بأقذع الاتهامات مثل «علماء السلطة» وغيرها من الكلمات السخيفة التى دأبوا عليها، العالِم هدفه هداية الخلائق جميعاً، يحبهم جميعاً، الطائع والعاصى، المقبل والمدبر، المحب والكاره، هذا هو «د. عمر» الإنسان كما عرفته، رحم الله «د. عمر» وأحسن مثوبته ورزق أسرته السلوى والصبر والرضا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف