المصريون
د. إبراهيم الديب
التخدير والتغييب باسم الدين.. الحالة الإسلامية المصرية نموذجا
ظاهرة عدم القدرة على المواجهة الحقيقية لتحديات الواقع، واستخدام استراتيجية الهروب المنظم من الواقع عبر استخدام خطاب ديني غير مسؤول ، يرقي إلى درجة الخداع والتدليس والتحريف ، بل والكذب علي الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم، وأراه يرقي إلى درجة خيانة الأمة ــ خاصة وهي في أصعب محطاتها التاريخية التي تمر بها ، في حقيقة الأمرهي ظاهرة متكررة علي مر العصور. ولكن الجديد في عصرنا أنها تحولت من ظاهرة تنتشر في أوساط بعض العلماء، إلي منهج له علماؤه ونخبه ومؤسساته ، ومن ثم وجب علينا الرد والبيان وتقديم شهادتنا لله تعالي ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ولنأخذ عينة حديثة لهذا المنهج ، وهي ما جاء علي لسان عالم جليل ،وشيخ فاضل يتمتع برمزية وأتباع كثر من أبناء الحالة الإسلامية في مصر والمنطقة العربية . وقد جاء ما نشر بإثمه : هل تذكرون في بدايات أحداث 3 يوليو حينما كثرت رؤى الصالحين المبشرة بنصر الله لعباده المؤمنين ؟؟ كان لا يمر اليوم أو اليومان إلا ونسمع بأحد الصالحين وقد رأى رؤيا صالحة تُبشر بنصر الله القريب وبهلاك الظالمين وكنا نستبشر بهذه الرؤى كثيرا خصوصا بعد تكرارها وتواترها بين إخواننا وأمهاتنا وأجدادنا من أصحاب القلوب الصادقة النقية ، وكيف لا نستبشر بها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قالوا : وما المبشرات ؟ قال : الرؤيا الصالحة . ثم مرت الأيام تلو الأيام ، ولم يزدد الأمر إلا ضيقا وسوءا ، حتى سمعت بعض اليائسين يقول : أين الرؤى التي رءاها الصالحون ؟ لابد أنها كانت كذبا ، فلما تأملت قول هذا الشاب ، تذكرت أن بين قول يوسف عليه السلام (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) وقوله (يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ) أربعين سنة ( أقول مر خلالها بالبئر والقصر والسجن )!!، فتذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( والله ليتمن الله هذا الأمر ولكنكم قوم تستجلون) . كلمات أهديها إلى نفسي كلما شعرت باليأس أو استبطأت النصر فأبشروا بنصر من الله وفتح قريب ... انتهى كلام الشيخ حفظه الله وأطال عمره في خدمة الإسلام. يمثل خطاب الشيخ نموذجا لهذه المؤسسة وهذا المنهاج في الهروب المنظم من الواقع تحت ستار الدين ولكن الأخطر من ذلك في هذا النهج ، أنه يؤدي إلي نتائج كارثية : أولا : تغييب الناس عن الواقع ، وعن المشكلة الحقيقية في تخلف وضعف وتردي دور الحالة الإسلامية والانحراف بهم بعيد إلي دروب من الوهم والخيال ، مما يزيد المشكلة تعقيدا ، ويؤخر حلها. ثانيا : الانحراف بالناس بعيدا عن المراجعة والتدقيق والبحث في أسباب تخلف وضعف وتراجع وتكرار فشل الحالة الإسلامية ، بل وقطع الطريق علي أية منهج علمي وشرعي حقيقي يمكن أن يتخذ لكشف أسباب الإخفاق الحالي . ثالثا : الانحراف بفهم ومعتقد وإيمان المسلمين من جادة التوكل والعمل ، والأخذ بالأسباب التي أمر الله تعالي بها ، إلي ميادين التواكل ، واختزال الإيمان بالله تعالي في بعض الشعائر التعبدية والدعاء وانتظار حلول السماء وهبوط الملائكة لحل مشاكل الحالة الإسلامية ، والمجتمعات الإسلامية . رابعا : ما يمثله هذا المنهج من استغراق في خداع ووهم المسلمين والذهاب بهم في مسارات ممتدة من الشعائر التعبدية المخملية ،انتظارا وترقبا لنزول الملائكة وتولي مهمة الانتصار علي أهل الباطل، وتنصيب أهل الإيمان وأصحاب الحق علي مقاليد الحكم والسلطة ّ! ذهب بالكثير من الشباب إلي الإلحاد والكفر بالله تعالي نتيجة عدم حدوث شيء مما وعدوهم به من نزول الملائكة . وذلك مما أعده من الأشكال الجديدة للتطرف العكسي والانحراف في فهم الدين والتي تذهب بالناس بعيدا عن كل الدين . خامسا : إهدار الكثير من عمر الأمة ودماء وجهود وأعمار المخلصين من أبناء الحالة الإسلامية والملتفين حولها ، والمؤملين فيها ــ في سراب ووهم وخداع كبير. سادسا : تكلفة الفرصة البديلة ،بضياع فرصة المراجعة والتدقيق وتنقيح منظومة الأفكار والقيم الحاكمة لعقول وسلوك وأداء المسلمين، وإعادة تنظيمها من جديد وإعداد المسلمين لعبور المستقبل والأخذ بالأسباب العملية الحقيقية للتنمية والنهوض. ما سبق يحتم علينا مناقشة هذا النموذج مناقشة علمية وشرعية تكشف ما به من إنحراف عن حقيقة وأصل الدين والمنطق . وقبل الدخول في الجانب الشرعي لفكرة رؤية الرسول في المنام فقد ناقشها الشاطبي معتبرا أن من لم يرى الرسول في حياته فانا له أن يعرف شكله فيطمئن أن من رآه هو الرسول صلي الله عليه وسلم . وقد روى الاستاذ محمود عبدالحليم قصة طويلة عن هذا النقاش في مراحل الدعوة الاولى وأنهم احتجوا على شاب كان يدعي رؤية الرسول بقول الشاطبي فقطعوا قوله . ومن العجيب هو الاستشهاد بشيء في مرحلة ، وبعكسه في مرحلة اخرى. ــ يقرر الشيخ برؤي الصالحين ، ثم يضيف من أصحاب القلوب الصادقة النقية ، مانحا نفسه صك منح صفة الصالحين علي بعض المسلمين الذين ينقلون إليه الرؤي ، مما يوحي للعموم بتوثيق وشرعنة ما يرونه ويتلونه من رؤي، مخالفا بذلك حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عَنْ أبي سعيد الخدريّ عن الرسول صلي الله عليه وسلم أنه قال :( إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) ، والطبيعي أن يقول الشيخ رواه بعض المسلمين، ويترك للناس أن تفهم وتقرر ما تشاء. ــ إستدعاء حديث الرؤيا والمبشرات في هذا الموضع ، والتوقيت التي تعاني فيه الأمة من التخلف والضعف والتراجع الحضاري والفجوة الحضارية الكبيرة مع بقية العالم ، نتيجة تخلفها عن الفهم، والعمل الصحيح لمفاهيم وقيم الدين، والأخذ بالأسباب الحقيقية للتنمية والنهوض ، يعد من باب المخدر المغيب بدلا عن الدواء الحكيم الناجع بدعوة الناس للمراجعة والتدقيق وكشف أسباب الهزيمة والبحث في أسباب النصر وكيفية امتلاكها ، مخالفا بذلك حكمة العلماء في فهم الداء وحسن توظيف الدواء . ــ ــ يستخدم الشيخ لفظ اليائسين بشكل عام علي الباحثين عن النصر وأسبابه في غير الأحلام والرؤي التي يطرحها الشيخ ، مما يعد خطأ فادحا في استخدام التعميم عليهم جميعا ، ثم في محاولة تشويه وتجريم الباحثين عن الحل الصحيح لمجرد مخالفتهم الحل الوحيد الذي طرحه عبر الرؤي . وقد أخطا في حق الباحثين عن حلول بديلة ثلاث مرات ، الأولي في عدم الانتباه لهم والاستفادة منهم والتعاون معهم في البحث عن حلول ، والثانية في تعجله وتوجيه الاتهام لهم بغير دليل ، والثالثة في تجريمهم ،ووصفهم باليائسين ، مع علمه بفداحة هذا الوصف ــ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ يوسف 87 مما يعني أن الشيخ وقع في أمرين بالغي الخطورة ويقدمان صورة مشوهة عن الإسلاميين بشكل عام:- أولا : تكفير المخالفين في الرأي ، وإن كان بشكل غير مباشر. ثانيا : محاولة إقصاء المخالفين في الرأي. ــ استدعاء قصة ورؤيا يوسف عليه السلام وهو نبي الله تعالي الموحى إليه ، والاستشهاد بآيات من كتاب الله تعالي لتأييد فكرته البشرية ( أي الشيخ ) و الغير ممنهجة علميا ، فهذ نبي الله يوسف يوحي اليه ، وهؤلاء من المسلمين العاديين ، في محطة من أضعف محطات المسلمين فهما والتزاما بدينهم ، وإمساكا بأسباب القوة . مما يعد مخالفة علمية وشرعية صريحة بالاستشهاد في غير موضعه ، ومحاولة مقاربة مختلفين غير متماثلين. ــ تأكيد وبشارة الشيخ بالنصر والفتح القريب، وهذا معلوم من الدين بالضرورة، ولكنه مشروط بوجود الفئة المؤمنة التي تأخذ بأسباب واستحقاقات نصر الله تعالي ، وليس علي الإطلاق والعموم هكذا ، خاصة عندما يزيل حديثه بأنه ـ نصر قريب ـ مع التجاهل التام لأي حديث من قريب أو من بعيد عن أية أسباب وأدوات للنصر، بما يكرس حالة الغفلة والتيه التي يعيشها المسلمون الآن . مخالفا بذلك المنهج العلمي في الاستدلال في غير موضعه. وما نود التأكيد عليه هو أن : الواقع الصعب الذي تمر به الحركات الاسلامية الكبرى اليوم يبرر الكثير من اقوالها وسلوكياتها ، فهي تعاني في العمق من نقص الثقة في مشروعها وفي قياداتها وفي مقولاتها ويحدث لها ما يحدث لكل البشر من محاولة إعادة التفسير للأحداث لاستبقاء شيئا من الضوء وبصيصا من الامل...فلم يكن مفاجئا المقال القصير الذي كتبه عالمنا الجليل وشيخ الفاضل ، والذي يحاول فيه إيجاد مخرج لفكرة الرؤى والاحلام التي سيطرت على منصة رابعة وكانت جزء من محاولة بث الحماس في نفوس جماهير الميدان. ليس ذلك هو المهم في الموضوع فما لم يشر له الشيخ الكريم جملة قضايا في غاية الخطورة اولها أن الاحلام والرؤى كانت تقوم بدور التخدير لمجموعة ليس عندها خطة ولا تصور وتريد تثبيت الناس في موقع كل عاقل يعلم انه مصيدة للموت . وأن البديل للخطط كان. تكثيف الكلام عن الرؤى والاحلام ، واستدعاء الآيات في غير سياقاتها لذات الغرض ،فمعجزات الرسل الذين كان يوحى اليهم بفعل الاشياء ويكرر عليهم القول اصبحت تستدعى وكأن قيادات الميدان تلقوا ذات التأكيدات ،فالآيات كما صدقت في الرسل ستصدق عليهم ويستثنون بالخوارق من تبعات القرارات والتفكير. كان حريا بالشيخ الدكتور بعد هذه الكارثة ان يطرح على الشباب فكرة احترام العقل والسنن لا ان يخاف عليهم الكفر بمنهجية التخطيط بالرؤى والاحلام او الكفر بمنهجية اقتطاع الآيات وسوقها في غير ما انزلت له والاعتماد على غيبوبة المتلقين. إن ظني بالشيخ الدكتور أنه فوق فكرة بيع المسكنات والوهم لامة شبعت من الغيبوبة ومن التهرب من استحقاقات الواقع بالدروشة ومزيد من الدروشة وانه آن الاوان لبعث جديد لا يتهرب من مسؤولية الفشل ، ولا يراهن على الخوارق ويحسن الظن بالله دون ان يهمل سننه في الكون ولا يختبئ خلف التعميمات والدين ليهرب من استحقاقات السؤال الكبير أين كان العقل عندما صيغ خطاب المنصة ،وأين كان العقل عندما وضعت خطة المواجهة ، واين كان العقل حين ارسل العسكر رسائل الموت عمليا في المنصة ومصطفى محمود ، أاين كان العقل عندما تواترت الانباء ان الجيش سيقتحم على العزل ويبيدهم...ليست المشكلة في خطأ سبق وطريقة في التفكير قادت لمهلكة ...ولكن ان يبقى هذا التفكير مسيطرا حتى يولد كابوس جديد...تلك هي المشكلة كما او ان أشير إلي أهمية أن ــ نفرق بين صريح الدين من كتاب الله تعالي وقول رسوله صلي الله عليه وسلم ، وبين تأويل وتفسير وأقوال وأراء العلماء الذي لا يعدو كونه اجتهادا بشريا يحتمل الصواب والخطأ . ــ وضرورة تمرير كل حديث علي محكمة العقل لتقييمه ، فكل إنسان مسؤول علي كل ما يدخل عقله ليقتنع ثم يؤمن به ويسلم له ويعمل به وله ، فالعقل مناط التكليف ، وأساس اختيار الفرد. ــ الفصل بين أهل الشعائر من صلاة ودعاء وبكاء ...الخ ، وبين أهل العلم والحكمة والبيان والفصل للناس . ــ الفصل بين صلاح الرجل ــ فهذا له ــ وبين علمه ورأيه ، فهو إما لنا أو علينا ، فلابد من تمريره أولا علي محكمة العقل والشرع لبيان صحته من عدمه. ــ الفصل بين الدعاة والعلماء الشرعيين الذين تقتصر بنيتهم المعرفية علي العلوم الدينية المجردة فقط ، وبين المفكرين الحكماء الذين يملكون علما موسوعيا يشمل العلوم الدينية وبقية منظومة العلوم الإنسانية من فلسفة ومنطق وإدارة وتربية واقتصاد واجتماع وسياسة وإعلام ، مما يمنحهم فرصة الفهم الحقيقي لمفاهيم وحقائق الدين في سياقها الإنساني العام الذي أنزلت فيه
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف