المصريون
جمال سلطان
جناية التيار الإسلامي على الديمقراطية في مصر
أخطأ التيار الإسلامي منذ البداية عندما دخل إلى فضاء السياسة بروح وحسابات "الكتلة الدينية" أو الأمة البديلة ، المتطابقة فكريا وروحيا وقيميا ، والوارثة لشمولية الإسلام (فكرة الخلافة) ، فكان من أخطر نتائج ذلك أن تحول الإسلام نفسه في مجتمعاته إلى "كتلة سياسية" وخندق ايديولوجي ، وانسحب من رحابة كونه ماء الحياة للمجتمع بجميع أحزابه وتياراته وقواه المدنية ، ليصبح رمزا للأفكار والقيم التي تمثل الحركات الدينية أو الأحزاب الدينية وحدها ، كان ذلك أول خسارة من الدخول الخاطئ للإسلاميين إلى السياسة ، وهي خسارة مزدوجة التأثير ، فهي خسارة للإسلام نفسه وهيبة حضوره العقائدي والقيمي والروحي في المجتمع ، وخسارة أيضا للتيارات الإسلامية التي أصبحت "فصيلا" من الفصائل ، أو "طائفة" من الطوائف في محيط الدولة والمجتمع ، وكثير من مواقف الجرأة على الدين وثوابته ومقدساته من قبل مفكرين أو سياسيين أو قوى مدنية كان جهلا وعنادا وغفلة سببها الأساس تلك "الفتنة" التي أحدثها الإسلاميون عندما اقتحموا السياسة من المدخل الخطأ وتحولوا إلى "كتلة سياسية" تحتكر الحديث باسم الدين وتفرض نفسها كمرجعية ممثلة للدين وحقائقه ، فقلصوا حضور الإسلام في فضاءات المجتمع ، وحصروه في "خنادق" فكرية وسياسية ، وحولوه إلى "ايديولوجية" داعمة لقوى سياسية دونا عن بقية فعاليات المجتمع . هذا المدخل وضع التيار الإسلامي خارج سياق التطور السياسي الديمقراطي بكل مراحله ، ليس فقط خارج إطار الدولة ، بل خارج إطار الحركة الوطنية بكاملها ، وبالتالي لم يكن في صدام متتالي مع الدولة فقط في كل مراحلها ، بل في صدام أيضا مع القوى الوطنية المختلفة حتى المعارضة ، مع تراكم المشاعر والأفكار السلبية تجاه تلك القوى ، والنظر إليهم ـ عادة ـ كعملاء ومتآمرين أو منحرفين أو حتى أعداء للإسلام ، وهو موقف كان له رد فعل مقابل جعل العلاقات بين الطرفين ملغمة بالخوف والشك والعدوانية المفرطة ، وهو الأمر الذي تفجر بصورة مروعة في أعقاب ثورة يناير ، سواء أثناء تولي المجلس العسكري للسلطة وانحياز الإسلاميين للجيش ، أو في مرحلة تولي محمد مرسي الرئاسة بعد الانتخابات الشهيرة وانحياز القوى المدنية للجيش ، ولم يكن ذلك الصدام الخطير وليد مشكلات لحظية فقط ، ولا خلافات قصيرة المدى ، أو سوء تقدير فقط لبعض المواقف ، وإنما كان كل ذلك مع تراكمات لميراث طويل من الشك والخوف والكراهية والعدوانية لم يفلح شركاء الثورة في علاجها ، الأمر الذي أضاع على الوطن كل شيء ، ودفع "الجميع" ثمنه . التيار الإسلامي في حاجة ماسة وعاجلة إلى مراجعات شاملة لأفكار "التكوين" ، فالدعوة بما تحمله من قيم وأفكار ومفاهيم وعقائد هي من صميم الجهد الاجتماعي ، والعمل الأهلي ، وهي لا تصلح إلا بين متجانسين في تلك القيم والأفكار والمفاهيم ، أما السياسة فهي التقاء فعاليات اجتماعية مختلفة في روافدها الفكرية والقيمية والعقائدية على "مصالح" مشتركة ، وقواسم تحقق "للجميع" ضمانات الحرية والكرامة والمشاركة وإصلاح الدولة والمؤسسات وطرح بديل سياسي لقيادة الدولة إن قبل به الشعب في انتخابات حرة . هذا التصويب أو إصلاح المسار لا يصلح أن يكون جزئيا أو مرحليا ، وإنما شاملا وحاسما ، ففكرة توليد أحزاب من رحم الجماعة هو استمرار لخداع النفس ، واستمرار لنفس الأزمة التي أربكت الجميع وعطلت المسار الديمقراطي في البلاد ، ستظل الجماعة وصية على الحزب ، وسيظل الحزب معبرا عن الجماعة ، وستظل فكرة العمل خارج إطار الدولة والنظام السياسي بكامله قائمة ، وقد حدث ذلك بوضوح في تجربة ما بعد ثورة يناير ، سواء في الإخوان وحزبهم "الحرية والعدالة" أو الدعوة السلفية وحزبهم "النور" أو الجماعة الإسلامية وحزبهم "البناء والتنمية" ، ظلت الجماعة تهيمن على الحزب وتمثل مرجعيته ، وظل الحزب "ذراعا" سياسية للجماعة ، حتى أن جماعة الإخوان وهي تحكم القصر الجمهوري وعضو مكتب إرشادها على كرسي رئاسة الجمهورية رفضت حل تنظيمها كرسالة طمأنة ، وظلت تراوغ وتسوف لشراء الوقت ، حتى وقع ما وقع . ظلت الجماعات الإسلامية ـ على مدار العقود الماضية ـ تمثل "اسفنجة" تمتص طاقات الأجيال الشابة المتوهجة ، وتأخذها بعيدا عن الحياة العامة وعن المشاركة الحقيقية ، وإن شاركوا في "بعض" من الشأن العام شاركوا تسللا ومراوغة ولحسابات "الكتلة" الدينية وليس المصالح الوطنية ، لأنهم ـ بداهة ـ يعتبرون المصلحة الوطنية هي مصالح الكتلة الدينية /الجماعة ، لينتهوا ملاحقين أمنيا ومطاردين ، ويعملون في الظلام ، أو على وقع الترتيبات الأمنية ، وتتناوب أفواج وأجيال منهم ملأ السجون والمعتقلات على فترات وسنوات متعاقبة ، فضلا عن بقائهم غامضين أو مكروهين عند القوى الوطنية المعارضة أو المستقلة ، إضافة إلى أن هذه "الإسفنجة" حرمت الحياة السياسية وأحزابها من تلك الطاقات الضخمة ، ملايين الشباب ، ولو أن هذه الملايين تم ضخها في شرايين السياسة والأحزاب المدنية لتغير وجه مصر منذ عقود ، ولتم كسر شوكة الاستبداد والتهميش ولنجح المجتمع في فرض منظومة سياسية أكثر عدلا ورشدا ، حتى لو لم تصل إلى المثال المنشود . باختصار ، لا ديمقراطية في مصر طالما ظلت أفكار "التكوين" مهيمنة وصانعة لتوجهات التيار الإسلامي ، وطالما بقيت فكرة الجماعة والتنظيم بقوالبها القديمة ووعيها الشمولي ، وستظل الحركات والأحزاب الإسلامية خارج إطار الدولة وخارج مسار الفعل السياسي الناضج والمثمر والبناء ، معوقة للتطور الديمقراطي ومعطلة لمساره ، مهما حسنت نواياها ، ومهما دفعت من ثمن في رحلة مظالم لا تنتهي .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف