يسرى السيد
صباح الخير أيها النيل الحزين !!
كلما ضاقت بي الدنيا ذهبت اليه.. أسبح فيه رغم انني لا أعرف العوم أو السباحة الا ضد التيار.. أتوضأ به من كل هم وكرب.. بنسماته علي الشاطيء وقبل ان تحتضن ذرات مياهه وجهي.. في محرابه اصلي للذي اجراه .. هو لا يجري في أرض.. ولايخترق جبال أوهضابا وسهولا ورمالاً وطيناً فحسب.. لكنه يجري داخلي وداخل عشاقه مع الدم في العروق ومع الشهيق والزفير.. احدثه واكاد اسمع مناجاته لي.. ذهبت اليه وتأملته وناجيته عند اول خطوة له علي ارض مصر في اقصي الجنوب..وهناك كتبت له همومي وشكواي علي ورقة نزعت حروفها من قلبي.. رأيت ابتسامته الصافية وامتدت يده بحنو لم اعهده من قبل. تحمل منديلا يكفكف دمعي ويضمد جرحي ويواسي همي.. هو النيل الذي خلق المصريون له الها يتقربون اليه قبل ان يعرف البشر الدين والتدين.. لماذا ؟ ..حتي يحفظ لهم نيلهم ويفيض لهم بخيره .. ولم يكن معني "حابي".. وهو إله النيل عند الفراعنة سوي "السعيد أو جالب السعادة".. وهو بحق هكذا منذ ان شقه الخالق عز وجل ليجري فينا منذ مئات الالاف من السنين حتي اليوم.. وجري له ما جري وشهد.. وكتب علي صفحته حكايات واساطير لا تنتهي حتي جاء للاجداد احفاد ليسوا من سلالتهم بحق وحقيقي.. كيف؟
* الاجداد الفراعين كان كل منهم يستعد ليوم الحساب باغلظ الايمانات امام رب العباد بانه "لم يلوث النيل".. ولم يقتصر الامر عند الآخره فقط بل صاغوها في اعرق قانون عرفته البشرية فيما يسمي ب قوانين الماعت أي "العدل" الـ42 التي تشكل بحق شريعة لحضارة امة . ولد من رحمها الضمير قبل نزول الاديان السماوية و سبقت ظهور الوصايا العشر بحوالي 2000 سنه.. ووقف هذا القسم مع اعترافات كثيرة لتشكل دستورا قبل ان تعرف البشرية القوانين والدساتير من عينة:
أنا لم أرتكب خطيئة.. أنا لم أسلب الآخرين ممتلكاتهم بالاكراه.. لم أسرق.. لم أقتل.. لم اختلس القرابين.. أنا لم أسرق ممتلكات المعبد..أنا لم أكذب.. لم أخطف الطعام..أنا لم ألعن "أشتم".. أنا لم أغلق أذني عن سماع كلمات الحق..أنا لم أزن..لم أتسبب في بكاء الآخرين "ايذاء مشاعر الآخرين".. لم أنتحب "أحزن" بدون سبب..لم أعتد علي أحداً.. لم أغش "أخدع" أحداً.. لم أغتصب أرض أحد.. لم أتنصت "أتجسس" علي أحد.. لم ألفق تهمة لأحد .. لم أغضب بدون سبب.. لم أغو زوجة أحد .. لم أدنس "ألوث" جسدي.. لم أقم بارهاب أحد.. لم أخالف القانون.. لم أتماد في الغضب.. لم أستخدم العنف ضد أحد... لم أهدد السلام... لم أتصرف بغوغائية "بدون تفكير"..لم أتدخل فيما لا يعنيني.. لم أتحدث بالمبالغة "النميمة".. لم أفعل الشر.. لم يصدر مني أفكار- كلمات- أفعال شريرة.. لم ألوث ماء النيل.. لم أتحدث بغضب أو استعلاء.. لم ألعن أحداً بكلمة أو فعل.. لم أضع نفسي موضع شبهات .. لم أنبش القبور و لم أسئ الي الموتي.. لم أخطف لقمة من فم طفل.. لم أتصرف بكبر و غطرسه.. لم أخرب المباني الدينية "المعابد".
* انتهت قوانين الماعت التي اعتقد ان النيل كان ملهمها في هذه البقعه المقدسة فقط حيث تعانق فيها النهر بارض وبشر في سيمفونية لم تتكرر..لان عبقرية الزمان والمكان توحدت هنا .. عبقرية البشر التي اضافت للارض والنهر بشكل غير مسبوق وغير متكرر وكان نتاجها حضارات لم يكشف عن اسرار بعضها حتي الآن واصبح من الصعب ان تقتنع تماما بجملة هيردوت الشهيرة¢ مصر هبة النيل ¢ انطلاقا من ان النيل جري في بلاد اخري قبل ان يأتي لمصر ولم يحدث فيها ما حدث في مصر. ويصعب ايضا ان تقول ان النيل هبة المصريين لان لولا النيل ماكانت حضارات المصريين وشخصيتهم .. وكما تذكر كتب المصريات كانت الماعت في علم نشأة الكون المصري هي قوانين التوازن و التناغم التي أخرجت الكون من هاوية الفوضي و الظلام. و هي "نون" "مياه الأزل- قاع الوجود- حالة مال قبل الخلق".. وهي نفس القوانين التي ما زالت تقيمه و تحفظه من السقوط فيها مرة أخري..يعني تأمل المصري القديم القوانين الكونية فكانت هي المثل الأعلي الذي أراد ان يجعل منه صورة علي الأرض... ليصبح "كما فوق. كما تحت". كما قال تحوت في ألواحه.
وكما أن للكون قوانين عليا تحكمه و تنظمه و تمنع سقوطه في هاوية الفوضي. كذلك للانسان قوانين تحكم سلوكه و تنظمه و تمنع الانسان من السقوط في الهاوية... ولم تكن قوانين الماعت قواعد أخلاقية. وانما كانت هي جوهر الفضيلة التي أودعها الاله داخل الانسان. و هي موجوده فيه منذ بداية الخلق و تنتقل من جيل الي جيل عن طريق الـDNA. و كل ما يحتاجه الانسان هو استدعاء و استحضار الفضيلة من داخله. وهو ما يعرف بمصطلح "ايقاظ الضمير".. هذا ما فعله قدماء المصريين في قانونهم الابدي ليعلموا البشرية الضمير.. يعني بحق كان الفراعنة "أمة فجر الضمير"
* فهل الاحفاد مثل الاجداد او حتي لدينا ما نتشبث به بأننا احفادهم!!.. هل نحن نقدس النيل كما قدسه الاجداد ام نهيل عليه كل ما يدنسه؟
لن اتحدث فقط عما نرميه فيه جميعا.. شعبا وحكومة.. علي طول مجراه لاننا يمكن ببعض الجهد ان نوقف هذه الكارثة من صرف مصانع او صرف ومخلفات بعضنا لكن الكارثة الاخري الاصعب
ما بنيناه علي ضفافه كأنه عورة نريد اخفاءها عن اعين الجميع ولم يقف الأمرعند انديتنا وبعض الهيئات المصرية بل وصل الامر لاحدي السفارات العربية ان اقامت ناديا لها علي واحدة من اجمل بقاعه بالقرب من كوبري الجامعة.. للاسف اصبح المواطن المصري محروماً من رؤية النيل في القاهرة والعديد من المحافظات بعد ان استولت هيئات كثيرة عليه. واذا كان لا يمكن الدخول معها في معارك لاسترداد النيل من بين انيابها فالحل الاسرع ان تكون هذه المنشأت تحت مستوي سطح الكورنيش بحيث يمكن لاي مواطن وهذا حقه ان يري النيل وهو واقف علي ضفافه .. هل هذا صعب؟
* عندما ذهبت إلي باريس منذ سنوات كنت محملا بخيال رحب حول نهر السين دعم ركائزه كتابات الادباء ورسومات الفنانين العظام والمقاهي التي جلس عليها جان بول سارتر وتوفيق الحكيم وطه حسين مع كبار فناني وادباء العالم.. كنت متشوقا لمقهي كارتييه حيث كان يجلس الفيلسوف الشهير جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار يتبارون في حل المشكلات الفكرية والفلسفية كأول مفكرين منذ عهد سقراط يهبطون بالأفكار من برجها العاجي إلي الشارع.بالاضافة الي مفكري وأدباء الولايات المتحدة الأميركية إرنست هيمنجواي وهنري ميللر واكثر تشوقا لمقهي -دو ماغو- لاسترجاع الاجواء التي عاشتها الكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغان صاحبة رواية "صباح الخير أيها الحزن".
* وكانت صورة نهر السين اسطوريه في المخيلة مع نهر الراين ونهر التايمزونهر الدانوب وقبلهم انهار دجلة والفرات وبردي والليطاني.. نهر السين في خيالي يعانق باريس بعد رحلة طولها 378 كيلومترا من منبعه يخترق قلب باريس و يمر تحت أكثر من 30 جسرا. بعضها يتجاوز عمره 300 سنة.. وهناك كانت المفاجأة.. ل صرخت في وجه من حولي.. السين لا يزيد عن ترعة عندنا.. ترعة الاسماعيلية او الابراهيمية بجواره عمالقة.. لكن ما رأيته جعلني حزينا علي نيلي !!..
الفرنسيون يقدسون "السين" ونحن نهين النيل.. هم حولوا السين لواحدة من الوجهة السياحية الأكثر زيارة في البلد. يمكنك الجلوس في المقاهي القريبة منه وتراه.. و إذا كان لديك المزيد من المال يمكنك التمتع بمشهد لنهر السين بطريقة أكثر جاذبية بأستخدام خدمة كروزالسياحية حيث تتجول في السين حول باريس برومانسية من خلال العبارات مع سقف زجاجي وقاع زجاجي ومن الجانبين تري الكثير من المباني والمواقع التاريخية التي تصطف في مشاهد معمارية رائعة علي طول حافة نهر السين من كنيسة نوتردام الشهيرة. الي متحف اللوفر الي أضواء الجسر المرصعة باضاءة عبقرية ومن هناك يقف برج ايفيل يقف متدثرا بضوء القمر المنعكس من علي سطح نهر السين