المساء
محمد جبريل
الفن التشكيلي ووحدة الفنون
أول صلتي بالفن التشكيلي سيدة ـ لعلها أوروبية ـ كانت تجلس علي كرسي من القماش الذي يسهل طيه. تنظر الي ما حولها: الأرض الخلاء المفضية الي نهاية شارعي رأس التين وجودة. في المواجهة أكواخ من الصفيح والخشب. يلهو أمامها أطفال. وثمة أشجار قصيرة. وأطلال بنايات متهدمة. وفي الخلف مبني مدرسة ابراهيم الأول الثانوية. أقف وراء السيدة الجالسة. أحدق في اللوحة. أحاول التعرف الي انعكس ما تراه من مشاهدات.
أعود الي البيت. أبسط ورقة. أرسم فيها بالقلم الرصاص ما تقع عليه عيناي من حركة الطريق. لقيت تشجيعا. وحثا علي المواصلة. من جاد أفندي ـ لقب مدرسي زماننا ـ يعرض سذاجة محاولاتي علي الناظر والمفتشين. وزوار المدرسة.
ولم يكن فاروق حسني زميلي في الدرج. ووزير الثقافة الأسبق. يخفي اعجابه بمحاولاتي السردية والفنية. ودفع لي ميلمين قيمة قصة يخطو كاتبها ـ بالكاد ـ الي السادسة من عمره.
أول ثقافتي التشكيلية تلقيتها في حوارات مطولة مع المثال الكبير الراحل أحمد عثمان. عميد كلية الفنون الجميلة الأسبق بالاسكندرية. نشرت الكثير من آرائه في صفحة الفنون التشكيلية بالمساء. حيث كان يتولي الاشراف عليها الزميلان الراحلان حسن عثمان وكمال الجويلي.
ترددت ـ فيما بعد ـ علي معارض القاهرة. دليلي ومرشدي كمال الجويلي. يعلمني كيفية قراءة اللوحة. والعمل الفني بعامة.
أذكر أني أطلت التوقف أمام لوحة كبيرة لمعرض زائر من متحف الفن البريطاني. مساحتها بيضاء. وفي زاويتها دائرة صغيرة. أبديت تشككي في قيمة اللوحة. فقال الجويلي: لماذا لا نعيد تأمل اللوحة ومحاولة فهم دلالتها؟
أعدت النظر الي اللوحة. كأنها عبرت عن كوكب الأرض في الكون. وحدة الانسان في العالم. ودلالات أخري نسيتها.
فتح لي الفن التشكيلي أبواب قاعاته وميادينه. تعلمت كيف أقرأ اللوحة. كيف أتأمل التمثال. كيف أعني بالتكوينات والتفصيلات الصغيرة.
صادقت مجموعة رائعة من الفنانين التشكيليين. أهداني المثال العظيم صلاح عبدالكريم رسما لقصة لي. وبورتريها أعتز به. واعتدت زيارة مراسم عمر النجدي وفرغلي عبدالحفيظ ومحمود بقشيش وعلي دسوقي وعبدالمنعم معوض وغيرهم. أفيد من قراءة ابداعاتهم الفنية. ومن رؤاهم وملاحظاتهم.
كان تعرفي الي خصائص الفن التشكيلي مدخلا لمحاولة الافادة من وحدة الفنون. أو تفاعل الأنواع. في صياغة كتاباتي السردية. المقتطفات والأقوال الدالة. المساحة البيضاء والتبقيع والقص واللصق والتجسيد كما في الأعمال الفنية التشكيلية. الفلاش باك والتقطيع كما في السينما. الحوار الدرامي كما في المسرح. اللغة البسيطة الشاعرة.. كل ما يتخلل النسيج السردي. فيضيف الي فنيته وتماسكه وعافيته.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف