بوابة الشروق
جمال قطب
رؤية القرآن للكون وسكانه
 -1- ما هى؟
تداول فلاسفة الاجتماع مصطلح «رؤية الكون» أو«الرؤية الكونية» أو«رؤية العالم»، وزعموا أن هذا المصطلح يعبر عن علم جديد اخترعه الفلاسفة الألمان فى القرن الـ19 وتناقله عنهم الأمريكان فى خمسينيات القرن الـ20، لكن بريق هذا العلم لم يخلب أنظار المثقفين إلا بعد جلوس الإنجليز على مائدة البحث العلمى الاجتماعى حتى توافق جميعهم على أن «رؤية الكون أو العالم» علم إنسانى اجتماعى ينتمى إلى مجال الأنثروبولوجى. ونحن نوافقهم على هذا التخصيص، لكن ندعوهم إلى مراجعة ادعائهم أنه علم جديد، فليس كل مصطلح مستحدث يشير إلى علم حديث مستجد، بل إن المنهج العلمى يقرر أن التمييز بين القديم والجديد هو تمييز بين مفهوم مستجد غير المفاهيم السابقة عليه. أما أن يكون الموضوع هو هو والعناصر هى هى والعلاقات الحادثة بين العناصر هى هى، فلا يكون فى الأمر جديد سوى المصطلح، والمصطلح لا يغير من الحقيقة شيئا، فالعبرة بالمفهوم والمضمون.

ــ1ــ

نعم فموضوع الرؤية الكونية موضوع قديم قدم الموجودات المسخرة أى قدم السماوات والأرض والجبال. وفى تلك الحلقة القديمة ظهرت أكثر من رؤية كونية، فالمسخرات الكبرى (السماوات والأرض والجبال) كانت لها رؤية كونية ناضجة !!! وعندما خلق الله آدم ظهرت رؤية كونية ثانية... إذ نطقت الملائكة وعرضت رؤيتها الكونية وكانت أيضا رؤية رشيدة. لكن العجب كل العجب أن تأتى رؤية ثالثة غير رشيدة ولا ناضجة ولم تتأس بما قبلها بل تضخمت لديها الـ«أنا». هكذا كانت الرؤية الثالثة «رؤية إبليس» إذ رأى ذاته وما حوله فضلا عن رؤيته للخالق العظيم، فعندما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم سجد الملائكة أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر... ها هو يتجاوز حدوده مع رب القوى والقدر، ثم ها هو يشذ شذوذا غريبا لا مبرر له إذ يخالف الملائكة كلهم !!! ثم ها هو يرى ذاته الـ«أنا» رؤية شخصية ويفضلها على آدم!!! بل يفضلها على من فضله الله واستخلفه وكرمه وأسكنه الجنة !!! كأن هذا اللعين لا يكتفى بتحقير غيره، بل يزداد مرضا فيعصى أمر مالك الأمر والأمور كلها سبحانه وتعالى. ثم ما تصورنا لقبول آدم للأمانة وتحملها، أليس ذلك التحمل صادر عن رؤية كونية شاملة؟! نعم لقد كان لآدم عليه السلام رؤية شاملة وإن كان يعجز هو وذريته كثيرا عن الإلتزام بتلك الرؤية.

ــ2ــ

وفى مرحلة تالية لما سبق، ظهرت رؤى كونية أخرى. فجميع الأنبياء والمرسلين جاءوا إلى أممهم وهم يحملون «رؤى كونية كاملة» هى موضوع دعوتهم ورسالتهم. أليس كل نبى جاء ليصل بين الناس وربهم عن طريق تعريفهم بالله؟ ألم تشمل الرسالات السماوية على حقوق الله وواجبات الناس نحوه؟ نعم فكل رسالة جاءت تعرف الأمة بخالقها وقداسته وواجباتهم نحو النوع البشرى بأكمله فضلا عن ما تحمله الرسالات من معارف موثقة عن الكون وما فيه من مخلوقات غيبية وأخرى مشهودة. بل إن جميع الرسالات قد احتوت نماذج كريمة لجميع سلوكيات الناس ومعاملاتهم، لذلك نقرر باطمئنان أن فحوى ومضمون كل رسالة سماوية هو «رؤية كونية» معبرة عن الرسالة والمخاطبين بها.

ــ3ــ

ولعلنا لا ننسى تاريخا طويلا لبنى إسرائيل مع الشرائع والنبوات وما صنعته أجيالهم المتتابعة إذ صاغوا لأنفسهم رؤية كونية ذاتية جعلتهم يكذبون الأنبياء ويقتلونهم. فإذا قرأت ما تبقى من نصوص العهد القديم تبينت معى كيف رأت تلك الأجيال موقفها من الألوهية وموقفها من الآخر فضلا عن تضخم «الذات» واعتبار أنفسهم وحدهم هم الشعب المختار. ولسنا فى حاجة إلى الاستفاضة بذكر الرؤى الكونية الثلاث لأتباع الشريعة المسيحية فقد جاءت الرؤية الكونية لكل من «الأرثوذكس» و«الكاثوليك» و«البروتستانت» تبين موقف كل مذهب مما حوله سواءا فى اتجاه الخالق أو فى مواجهة البشر فضلا عن تصورهم للمسخرات فى صفحة الأرض.

ــ4ــ

وكذلك «القرآن الكريم» وهو الطبعة الأخيرة للوحى السماوى يبين ما يعتقده المسلم فى خالق الخلق ومبدعه وتصور الكون وما يزحمه من مسخرات فضلا عن ذلك الخليفة المؤتمن «الإنسان»، فهو «سيد» بين الكائنات يتولى إعمار الأرض وإصلاحها... ولعلهم يفلحون.
يتبع
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف