لا يشعر أى متابع لتفاصيل الأزمة التى يمر بها حزب «المصريين الأحرار» أنه يقرأ جديدا. فعلى الرغم من أن هذا الحزب تحديدا, الذى أسسه رجل الأعمال الشهير المهندس نجيب ساويرس عقب ثورة 25 يناير, سعى لتقديم نفسه بصورة تميزه عن باقى الأحزاب, كحزب وُلد كبيرا رغم حداثة عهده بالسياسة, متفردا فى توجهه الليبرالى, يراهن على حصد أكبر عدد من مقاعد البرلمان بما يمكنه من تشكيل الحكومة وفق ما ينص عليه الدستور, الحالى, فإن الأمر آل أخيرا الى العكس تماما من كل هذه التوقعات.
بدأت أزمته, التى خرجت للعلن, بخطوة مفاجئة اتخذها مؤتمره العام أواخر العام الماضى بقيادة رئيس الحزب عصام خليل, بتعديل لائحة نظامه الأساسى وحل مجلس الأمناء الذى يضم فى عضويته مؤسس الحزب أى ببساطة عزله. ثم سرعان ما انفجر الصراع بين الفريقين, المؤيد للأول والمناصر للثانى, فتبادلا الاتهامات وتراشقا بالألفاظ والعبارات الحادة. وبعيدا عن التفاصيل فان أهم ما يمكن التوقف عنده هو ما أُثير حول تدخل الدولة أو بالأحرى الأجهزة الأمنية فى تحريك هذا الصراع لهدم الحزب من الداخل, فضلا عن الانحراف الكامل عن طابعه الليبرالى, وفى هذا السياق عدد المهندس ساويرس بعض الأمثلة من واقع تصويت أعضاء الحزب فى البرلمان على بعض القضايا المحورية, ومنها رفض قانون الخدمة المدنية وهو ما يجافى منطق الاقتصاد الحر, وعدم التصدى لقانون الجمعيات الأهلية والموافقة فى المقابل على قانون تنظيم الاعلام, الى جانب اختيار النائب علاء عابد لرئاسة لجنة حقوق الانسان دون مراعاة لخلفيته الأمنية التى لا تؤهله لذلك كما أشار. وانتهى الأمر الى اللجوء للقضاء ولجنة شئون الأحزاب لحسم الصراع بعد أن تحول من صراع سياسى وحزبى إلى قانونى وإدارى.
هكذا بدا الحزب مأزوما، حاله من حال أى حزب آخر كبيرا كان أو صغيرا أو حتى مجهولا. واذا تأملنا هذه الأزمة بعيدا عن أطرافها وعن اسم الحزب سنجدها «نمطا» مكررا الى حد الملل فى الحياة الحزبية المصرية منذ عودة الأحزاب بقرار فوقى من الرئيس الراحل أنور السادات فى منتصف السبعينيات بعد أن جُمدت لعقود أى منذ حلها بقرار رئاسى آخر إثر ثورة يوليو 1952 ومن ذلك الحين إلى يومنا هذا بقى وضع الأحزاب كما هو مهما كثر عددها, مشكلاتها متشابهة, لا مؤسسية تحكمها, ولا أفكار واضحة تعبر عنها وانما دائما خليط أو هجين من اتجاهات فكرية غير متجانسة تتأرجح من اليمين الى اليسار يحددها طابع «شعبوى» لا أكثر, لا فروقات جوهرية بينها ولا توجه ناحية فئة اجتماعية معينة أسوة بالأنظمة الحزبية المتقدمة, لا التزام حزبى أو ممارسة ديمقراطية بداخلها, بل تكالب على السطوة والنفوذ ومواقع القيادة, تعقبه منطقيا ظاهرة الانشقاقات وان لم تكن هذه فيكون البديل هو الاستقالات أو تجميد العضوية أو خلق الجبهات والتكتلات والشللية داخل الحزب أى حزب, تشهد على ذلك سنوات الثمانينيات والتسعينيات والألفية أيضا, انطبق ذلك قديما على أحزاب «مصر الفتاة» و«العمل الاشتراكى» و«الأحرار» الذى أسسه مصطفى كامل مراد و«العربى الناصرى» و«التجمع» و«الوفد» بعد رحيل مؤسسه فى التجربة الثانية فؤاد سراج الدين واندلاع الصراع بين نعمان جمعة, الذى تولى رئاسة الحزب من بعده, ومحمود أباظة وحاليا بين رئيسه السيد البدوى ومجموعة فؤاد بدراوى, وحزب «الغد» الذى أسسه أيمن نور وانشق عنه «غد الثورة» بقيادة موسى مصطفى موسى قبل أن يندمج أخيرا مع حزب «المؤتمر» وكذلك حزب «النور» السلفى الذى خرج منه «الوطن» وعشرات النماذج على هذا المنوال.
فى كل هذه الحالات كانت البدايات واحدة والنهايات كذلك, بل وتطابقت الاتهامات, ولا يبدو أن «المصريين الأحرار» سيكون استثناء من هذا المصير, ولكن الملاحظة اللافتة هنا أن الأزمة لم تحظ باهتمام الرأى العام! ألم يعد المجتمع مشغولا بالأحزاب أصلا ولا منتظرا دورها؟ وهل اختُزل أمرها فى علاقاتها بالأجهزة الإدارية والأمنية؟ والأسئلة تجيب عن نفسها بالطبع.
إذن, فشل الحزب موضوع المقال يدخل فى إطار الفشل العام للأحزاب المصرية, يشاركها سماتها العامة وان بقيت خصوصيته فى جزئية مختلفة تتعلق بطابعه «الليبرالى» وهنا الاخفاق هو اخفاق ذاتى للحزب.
فمنذ اليوم الأول للاعلان عن الاسم الذى اختاره لنفسه بدأ التشبه بحزب «الأحرار الدستوريين», الذى انشق عن حزب الوفد صاحب الأغلبية فى التجربة الحزبية الأولى إبان الحقبة الليبرالية التى يؤرخ لها من العشرينيات الى الأربعينيات, واضحا. ولأن التيار الفكرى الليبرالى ضعُف أو أُضعف لعقود طويلة فكان الأولى أن تكون هذه هى القضية محل الاهتمام الرئيسى لـ «المصريين الأحرار» وليس القفز على الواقع والبحث عن الجماهيرية والفوز الساحق فى الانتخابات, الذى يقتضى بالضرورة التوسع فى العضوية دون تدقيق فى الاختيار السياسى ومدى الالتزام بالمبادىء والأفكار, وهو ما أدى - كنتيجة طبيعية - الى طمس هوية الحزب.
الحقيقة التاريخية تؤكد أن الأحزاب المنضوية تحت هذا التصنيف, أى الفكرى, تبقى عبر الزمن وتترك بصمة لا تُمحى حتى وإن انتمت للأقلية وكان هذا هو حال «الأحرار الدستوريين» الذى خاض فى زمانه أخطر معارك التنوير وضم أسماء لامعة كطه حسين وأحمد لطفى السيد ومحمد حسين هيكل وعلى عبد الرازق, وهو أيضا الحزب الذى وضع أعضاؤه دستور 1923 (أول دستور ليبرالى فى البلاد مازلنا نفتخر به حتى الآن) صحيح أنه عُرف كحزب النخبة والمثقفين, ولكن ألم يكن ذلك كفيلا بصموده أمام «الوفد» بشعبيته الجارفة آنذاك وتخليد اسمه كواحد من أهم الأحزاب التى مرت فى حياتنا السياسية؟ ولو كان القائمون على حزب المصريين الأحرار اقتنعوا بهذا المنهج مبكرا لربما أحدثوا فارقا اليوم.