الأهرام
طه عبد العليم
فى أصول إحياء الهوية المصرية
ينبغى أن تنطلق المواجهة الثقافية لاقتلاع جذور الإرهاب من حسم مسألة الهوية. والهوية الوطنية- وهى ما تعنينا فى حديث دولة المواطنة المدنية الحديثة- مسألة تتعلق بأمة محددة تعيش فى وطن محدد، وتحدد عنوان الولاء والإنتماء الوطنى. وقد كتبت- وأكرر- أنه إذا كانت هناك أمة فى العالم محددة الهوية بغير التباس فانها الأمة المصرية؛ أول أمة تكونت على وجه الأرض. وقبل آلاف السنين من ظهور الحركات والدول القومية في أوروبا تمكن المصريون القدماء بقيادة ملوكهم منذ عهد مينا من إقامة وحفظ حدود دولتهم القومية المركزية الموحدة من رفح الي حلفا، واندمجوا في أمة واحدة علي أرض الوادي والدلتا بمصر, يربطهم النيل بحياة اقتصادية مشتركة, ويكونون نسيجا متماسكا من الوحدة الوطنية, وتوحدهم روابط اللغة والثقافة والتاريخ والجنس والدين, وتجمعهم المصالح والغايات العليا المشتركة ومشاعر الولاء والانتماء للوطن.

ويسجل طاهر عبد الحكيم فى كتابه المهم فى هذا السياق (الشخصية الوطنية المصرية: قراءة جديدة لتاريخ مصر) أن وقائع تاريخ مصر الحديث تأتى دليلاً على أن الإنسان المصري يعتبر موقفه الديني علاقة خاصة وفردية بينه وبين الله، وإنه كما يرفض الوساطة في هذه العلاقة، فإنه على استعداد لتقبل مواقف سياسية واجتماعية، حتى وإن كانت على أسس غير دينية، طالما أن ذلك يحقق له مصالحه الاقتصادية والاجتماعية. فقد التف المصريون بقوة حول قيادة الثورة العرابية رغم نص أول بيان للحزب الوطني الأول على أنه حزب سياسي غير ديني، وفقدت القيادة الدينية، منذ ذلك الوقت، موقعها كقيادة سياسية. وكذلك التف المصريون التفافاً رائعاً حول حزب الوفد وقيادته العلمانية، وعجز تحالف السراي الملكي مع القيادة الدينية التقليدية (مشايخ الأزهر) والقيادة الدينية السياسية السلفية الجديدة (الإخوان المسلمين) عن النيل من شعبية حزب الوفد وبخاصة لدى الفلاحين، كما عجز هذا التحالف عن أن يقدم نفسه كبديل منافس للوفد في قيادة الشعب. ومرة أخرى، لم تهتز شعبية جمال عبد الناصر لدى الغالبية العظمى من الشعب رغم العنف الذى تعامل به مع جماعة الإخوان.

وبينما كان علماء عام 1805 ينصبون محمد علي في السلطة كي يحكم بشروطهم، إذ بعلماء عام 1838 يمثلون النزوع الوطني الاستقلالى ولكن بشروط محمد علي، أي أن يكون استقلال مصر له ولورثته. ومن صفوف هذا الجيل الأخير في حركة العلماء، وتعبيراً عن موقفهم التراجعي هذا، خرج الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، الذى ظل يعتبر الحاكم غير مسئول عن أعماله أمام أحد من الرعية، وإنما هو مسئول فقط أمام الله. ورغم هذا فقد أصبح الوطن لدى الطهطاوي حقيقة جغرافية وتاريخية وحضارية لم تبدأ مع الفتح العربي الإسلامي، فيعلن أمة مصر أول أمة في المجد وعلو الهمة، ولها الحق في أن يحترمها جميع الأمم والملل، وملوك الدنيا والدول، فكم اقتبسوا منها في الأزمان الخالية أنوار العلوم والمعارف. وعندما يتحدث عن حقوق المواطن يبدو متأثراً بالفكر الليبرالي ويناقض ما قاله عن ولاة الأمور. فانقياد المواطن لقوانين وطنية يستلزم ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية، وللمواطن حق معارضة الحكام وأن يقول رأيه فيما لا يوافق عليه في السياسات والتدابير، وألا يترك ولاة الأمور يفعلون ما يشاءون. ويعطي الطهطاوي الأمة مفهوماً أكثر حداثة وتحديداً، يقوم على أساس اجتماعي وسياسي وحقوقي خلافاً للمفهوم الذي كان الانتماء الديني أساسًا له. وفى مناهج الألباب يؤكد أنه بما أن تحقيق الرفاهية من مقتضيات العمل بمشيئة الله، فلا ضير في تفسير الشريعة بما يتفق واحتياجات العصر.

وكانت لإنجازات الطهطاوى الفكرية فيما يتعلق بالوطن والأمة والحكم ونظرته للشريعة أثرها في تشكيل إرهاصات الثورة العرابية. وعندما ظهرت كلمة الأمة في الفكر الاجتماعي والسياسي المصري في القرن التاسع عشر إنما كانت تعني على وجه التحديد الأمة المصرية. وبعد أربع سنوات من صدور كتابه المرشد الأمين يستهل مجلس شورى النواب الثاني رده على خطاب العرش بالقول: نحن نواب الأمة المصرية ووكلاؤها المدافعون عن حقوقها، الطالبون لمصلحتها. وعندما قال أحمد عرابي لتوفيق في ميدان عابدين: نحن هنا باسم الأمة فلقد كان واضحاً أنه يعني الأمة المصرية. وحينما تعرض الشيخ محمد عبده لموضوع الأمة في بيان الحزب الوطني الذي أعيد مشروعه فإنه كان واضحاً وضوحاً لا لبس فيه أن الأمة التي يعنيها هي الأمة المصرية، وكذلك حينما تحدث عنها عبد الله النديم. وفي ثورة 1919 وما بعدها، حينما تحدث حزب الوفد بقيادة سعد زغلول عن نفسه باعتباره وكيل الأمة كان يعنى الأمة المصرية.

ويعلن بيان الحزب الوطنى الأول أن المسلمين والنصارى وجميع من يرث أرض مصر ويتكلم لغتها إخوان، وحقوقهم في السياسة والشرائع متساوية. ويضع عبد الله النديم المسألة بوضوح أكثر، معلنا أن العيش الكريم في ظل الاستقلال والانتشار الشامل للوطنية أفضل من العيش المهين ولو كان في ظل وحدة العقيدة. ولدى مفكري الثورة العرابية لم نعد بإزاء مسلمين وذميين- كما كان الحال عند الطهطاوي مهما تكن درجة التسامح والحرية اللتين كان يطالب بهما الذميون- بل نحن إزاء مواطنين مصريين مدعوين إلى الوحدة والترابط بصرف النظر عن الانتماء الديني. وهذه النقطة على وجه التحديد تشكل انقلاباً جذرياً على مفاهيم الأمة والمواطنة التي ظلت سائدة منذ الفتح الإسلامي حتى ذلك الوقت. وكان تقبل المصريين بقوة لهذه الأفكار وللشعارات المنبثقة عنها، والتفافهم الحماسي حول قيادات سياسية علمانية تحمل هذه الأفكار بعد أن كانوا إلى وقت قريب ينضوون تحت قيادات دينية، يعني أن مصلحة الوطن بالنسبة لهم لها الأولوية. وفى هذا امتداد لموقف المصري من الدين، أي اعتبار الدين مسألة شخصية يرفض المصري فيها أية وساطة بينه وبين الله. وللحديث بقية.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف