لانه لم يكن يغادر مدينته إلا نادراً. فقد كنت أقود سيارتي إلي السويس. ألتقيه في بيته. أو جالساً علي المقهي القريب من البحر. يأخذنا النقاش إلي ما قبل المساء. فأعود إلي القاهرة.
كانت الساعات القليلة التي أمضيها في صحبة محمد الراوي تعميقاً لمعني الاخوة والصداقة والمؤانسة. أعرفه منذ الستينيات. لا أذكر لقاءنا الأول. لكنني أمسكت بطرف الخيط منذ تلك الجلسة التي جمعتني والراوي وضياء الشرقاوي. فلم أفلته. وجدت فيه مثلاً للصداقة في أجمل تجلياتها.
الاجماع مطلب يعجز الكثيرون عن بلوغه في صخب حياة ثقافية قوامها الاختلافات. لكن محمد الراوي حظي- طيلة حياته- بإجماع المثقفين المصريين والعرب. بالاضافة إلي مثقفين أوروبيين عنوا بدراسة أعماله. زكاه إبداع جميل. وثقافة متعمقة. وحرص علي الصداقة دون تقيد بالمكانة هو الابن لكبار المبدعين والنقاد. وهو الاخ والاب لمبدعي الاجيال التالية ونقادها.
قدم لي نسخة من رواية ألبرتو مورافيا "أنا وهو". قال: لم أفهم سبب مصادرة هذه الرواية حديثها عن الجنس لكنك لن تجد فيها عبارة نابية.
أشرت إلي أن غيابي ربما سيطول عن السويس. فقال: هي لك.. فقد قرأتها.. عرفت أن ذلك ما كان يفعله الراوي مع أصدقائه وتلاميذه. الكتاب الذي يقرأه يمنحه لمن يري أنه سيفيد منه.
لم تكن إقامته في السويس تكاسلاً. ولا ابتعاداً عن زحام القاهرة. أو عزوفاًً عن صخب علامها. لكنه كان يجد في إقامة المثقف داخل مدينته ضرورة لاثراء البيئة وتطويرها يقضي وقته بين قصر الثقافة والمقهي. يلتقي الادباء. ينصت إليهم. يجيب عن أسئلتهم يمتد الحوار فيشمل قضايا عامة. يبدو مثلاً للقائد الثقافي الذي ينشر الوعي والتنوير امتداداً لاسهامات الرواد والاجيال التالية. قيمة دور الراوي أنه لم يزاحم به مثقفي العاصمة. بل قصره علي مدينته. فهي الاشد احتياجاً لاسهامات مثقفيها. يقينه أن اللامركزية ليست مطلباً في أداء المؤسسات وحدها. إنما هي مطلب مهم من الافراد.
حين لزم البيت- بتأثير المرض- سافرت للقائه. لكن الاصدقاء من مثفي السويس- د. رضا صالح وعزت المتبولي وسيد عبدالسلام وياسر محمود وغيرهم - أشفقوا من أن يكون قد نسيني كما نسي الكثير من أصدقائه. لم يعد- في رواياتهم - محمد الراوي الذي أعرفه. الصحة والشباب والذهن الصاحي والثقافة الموسوعية والابداع الجميل. يمد الصديق يده وصلاً بما كان. فيبادره بالقول: من أنت؟ لكن الاصدقاء ظلوا حريصين علي زيارته يحاولون- بإلحاح الاسئلة- أن يجدوا ما يطمئنهم إلي جدوي العلاج.
يأخذنا الحوار عن شخصية الراوي. القيمة التي يمثلها في السويس. علاقاته المتميزة بالمثقفين. وبأبناء المدينةة. متابعته الواعية للتطورات الثقافية في مصر والعالم. رعايته للمواهب الابداعية الطالعة.
رحل محمد الراوي عن حياتنا في صمت وتجاهل للواقع الثقاف ي. تلاشت- في نظره- الخلافات والصراعات كأنه تعمد غياب حضوره الحي عنها.
رحمه الله.