المصريون
جمال سلطان
أحزان أبو تريكة تربك "جمهورية الخوف"
أتت وفاة والد النجم المصري واسع الشهرة والاحترام ـ داخل مصر وخارجها ـ محمد أبو تريكة وما ارتبط بها من مواقف وردود أفعال ، لكي تكون قاصمة الظهر في سمعة النظام السياسي بكامله ، ومنذ البداية لم يكن أحد في مصر والعالم يصدق صحة اتهام هذا النجم الكبير بالإرهاب أو دعم الإرهاب ، وطرحت تفسيرات كثيرة لهذا الأمر ، أغلبها يصب في خصومة شخصية بين النجم الكروي وقيادة عسكرية رفيعة سابقة ، على خلفية مذبحة استاد بورسعيد التي راح ضحيتها عشرات من الشباب المشجعين للنادي الأهلي ، ولم يطرح أحد أبدا فرضية أن أبو تريكة متورط في الإرهاب أو دعم الإرهاب ، واستغرب الجميع مثل هذا الكلام ، وكانت هذه الورطة الأولى التي تورط فيها النظام ، لأنه أساء إلى سمعته ولم يسيء إلى سمعة أبو تريكة ، وأهدر مصداقية اتهامات الإرهاب التي تتم بعثرتها هذه الأيام بصورة مدهشة ، كما أتى قرار التحفظ على أمواله وممتلكاته ليضيف بعدا "ثأريا" للخصومة ، خاصة وأن القاصي والداني يعرف أن تلك الثروة المحدودة هي حصاد إنجازاته لصالح الكرة المصرية ، وما أضاف لها من بطولات ، ولاسم مصر نفسها من أمجاد رياضية ، فيكون هذا هو رد الجميل الذي تقدمه مصر للشخص الذي صنع لها كل تلك البطولات والحضور الإقليمي والإفريقي والعالمي . عندما أعلنت وفاة والد محمد أبو تريكة اتجهت الأنظار إلى العاصمة القطرية الدوحة ، حيث يقيم اللاعب الدولي السابق للعمل محللا رياضيا في قنواتها الرياضية المعروفة ، وحيث يمثل عمله هناك أهم دخل مالي له حاليا للإنفاق على نفسه وأسرته بعد أن وضعت الحكومة يدها على أمواله ، وقرر محمد أن ينزل إلى القاهرة أيا كانت الظروف لحضور جنازة والده ، ثم أتته اتصالات عديدة من القاهرة ، من أقاربه وأشقائه وغيرهم ، يحذرونه من النزول ، لأنه غير مأمون العواقب ، ولا توجد أي ضمانات ، وكان هذا أكثر إيلاما على نفسيته بطبيعة الحال ، ولكن عدم نزوله في تلك الظروف والمحنة الإنسانية يمثل ضربة عنيفة لسمعة مصر وقيادتها السياسية ، وغياب أي بعد إنساني ، وقد أدركت الحكومة ذلك ، فتم إعلان تصريحات أمنية وقضائية عبر وسائل الإعلام المختلفة تقول أن أبو تريكة ليس مدرجا على قوائم ترقب الوصول ـ حتى الآن ـ كما أنه لن يتم القاء القبض عليه إذا أتى للقاهرة ، وأنه سيعامل "كأي مواطن عادي" ، وحكاية أي مواطن عادي تحولت إلى نكتة على مواقع التواصل الاجتماعي ، لأن الجميع يعرف قيمة "المواطن العادي" عند الحكومة ، وكرامته وآدميته وحقوقه الإنسانية كاملة غير منقوصة ، ولكن المهم في اللفتة أن تخرج تلك التصريحات من أجل تأكيد ما يفترض أنه مؤكد ، أن ينسب إلى مسئول قضائي مثلا قوله : سنحترم القانون ، ولا يمكن أن تجد مثل ذلك في أي مكان محترم في العالم ، فيه قانون وفيه أبسط قواعد مفهوم "الدولة" ، أن تصدر تصريحات من مسئولين أمنيين وقضائيين ، يقولون لمواطن في الخارج ، تعال ولن نتعرض لك ، تعال ولن نسجنك أو نلقي القبض عليك ، هذا موقف أسطوري في غرابته ، وأيضا في دلالته على المستوى الذي وصلنا إليه في مفهوم الأمن والقانون والحقوق الدستورية . بطبيعة الحال ، انتهى الأمر إلى إلغاء أبو تريكة لفكرة سفره إلى القاهرة وحضور عزاء والده ، ولم يستجب للنداءات ، كما أنه ـ بداهة ـ لم يثق في التصريحات الرسمية التي صدرت لتقول له : تعال ما تخافش ! ، لم يطمئن أن هناك قانونا يحميه أو مؤسسات تضمن حقوقه ، أو أمنا يأمن معه على مصيره وعلى الأقل في إمكانية سفره مرة أخرى ، لأنه بورقة صغيرة يمكن أن تصدر خلال دقائق يتقرر حبسه داخل البلاد ومنعه من السفر نهائيا ، وهذا ما أكده أمس إعلاميون موالون للسلطة علنا في برامجهم الفضائية . ما حدث مع أبو تريكة أعطى انطباعا داخليا ودوليا عن أن مصر تحولت إلى "جمهورية خوف" ، حتى أن نجما كبيرا ويحظى بجماهيرية طاغية وغير مسبوقة في بلده والعالم مثل محمد أبو تريكة ، يخاف أن ينزل إلى بلده ، رغم أنه غير متهم بشيء محدد حتى الآن ، ويصل الأمر إلى حد أنه هو ومعارفه وأقاربه لا يثقون نهائيا في أي التزامات أمنية أو قانونية ، ويتعاملون معها على أنها "فخ" لاصطياده ، وأي عقل سياسي في أدنى درجات الوعي يدرك أن هذا كله يمثل خسارة فادحة لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي ، بل كارثة على سمعته ، وعلى صورة مصر ، وحتى على ثقة شركات السياحة العالمية بأوضاعها ، وهي خسارة مستمرة ، وستظل تنزف من سمعة النظام والثقة فيه طالما بقي أبو تريكة خارج البلاد خائفا ، وطالما بقيت تلك الاتهامات الغرائبية تلاحقه ، وطالما بقيت الأمور تدار في مصر بشخصانية مخيفة ، تهدر أي قواعد وتلغي أي ثقة بين الدولة ومواطنيها ، وتسقط أي ضمانات ، حتى لو كانت نصا دستوريا ، فكل شيء جائز ، وكل شيء ممكن ، وانت وحظك ! .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف