أول مثلين ذكرهما القرآن الكريم في أول سورة البقرة عن حال المنافقين مثلين عجيبين فعلا... وسبحان من هذا كلامه... مثلان يحتاجان منا التأمّل والتفكير في حالهم التعيس البئيس... مثلان ضربهما الله للمنافقين في غاية الروعة والدقة والسمو والبيان... لقد كنت دائما أتساءل في نفسي: لماذا مثلان؟ لماذا ضرب لهم الحق جل وعلا مثلين؟... لماذا لم يكونا مثلا واحدا؟ حيث قال جل شأنه: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا... ) ثم قال بعد هذا المثل الأول: (أو كصيّب...) والصّيّب المطر الكثير... سبحان الله!... فعلا لابد أن يكونا مثلين... ذلك أن المنافقين لديهم شيئان لا شيء واحد؛ لديهم (إيمان ظاهر) و (كفر مخفي) ... والكافر عنده أمر واحد هو (الكفر)... والمؤمن عنده شيء واحد هو (الإيمان)... أما المنافق فعنده شيئان... يرى بعض العلماء أن الله جل وعلا ضرب لهؤلاء المنافقين مثلين: مثلًا [ناريًّا] ومثلًا [مائيًّا]... فأما مثلهم [الناري]: فإنهم كمثل من أوقد ((نارًا)) ليستضيء بها، ويهتدي بها... فلما سطع نورها وظن أنَّه ينتفع بضوئها خمدت، فذهب ما فيها من (إشراق) وبقي ما فيها من (إحراق)... فبقي أصحابها في ظلمات لا يرون شيئًا، ولا يهتدون سبيلًا. والمنافقون (صمٌّ) لا يسمعون الحق... (بُكْمٌ) لا ينطقون به... (عُمي) عن إبصاره ورؤيته فلا يرجعون عن ضلالهم. وأما مثلهم [المائي]: فإنهم كمثل ((مطر)) كثير، نزل من سحاب فيه (ظلمات) متراكمة و (رعد) و (برق) نزل على قوم فأصابهم هلع وذعر شديد، فجعلوا يسدُّون آذانهم بأطراف أصابعهم، من شدة صوت الصواعق خوفًا من الموت... يكاد هذا (البرق) من شدة لمعانه وسطوعه يأخذ أبصارهم، كلما ومض البرق لهم وأضاء تقدموا ومشوا وتحركوا... وإذا لم يضئ لهم بقوا في الظلام قائمين، فلم يستطيعوا التحرك، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم بقدرته... فلا تعود إليهم؛ لإعراضهم عن الحق. فكان ((المطر)) مثلًا للقرآن، وصوت الصواعق مثلًا لما فيه من (الزواجر والعظات)... وكان (ضوء البرق) مثلًا لظهور الحق لهم أحيانًا... وكان (سدّ الآذان) من شدة الصواعق، مثلًا لإعراضهم عن الحق وعدم الاستجابة له... ووجه الشبه في الآيات الكريمة بين (المنافقين) و (أصحاب المَثَلَين) هو عدم الاستفادة من شيء مما يستفاد منه من ((النار)) و ((المطر))... ففي المثل [الناري]: لم يستفد مستوقد ((النار)) غير (الظلام) و (الإحراق)... وفي المثل [المائي]: لم يستفد أصحاب المطر إلا ما يروِّعهم ويزعجهم من الرعد والبرق... وهكذا المنافقون لا يرون في الإسلام إلا الشدة والقسوة... فسبحان من هذا كلامه... ونسأل الله العافية من النفاق والمنافقين...