رحلت أمى.. تلك السيدة التى لم يعطنى أحد كما أعطتنى.. ولم يحتملنى أحد كما احتملتنى.. كتبت لها هذه الكلمات منذ ما يقرب من عامين.. وأناجيها بها الآن وهى فى عالم أفضل. أعلم أن الموضوع يخصّنى وحدى، لكننى أستميحك عذراً عزيزى القارئ، فليس بمقدورى أن أكتب بعد ساعات من رحيلها إلا عنها:
«ذلك المشهد أذكره جيداً، أمى تمسك بيدى وأنا أحاول السير ولا أقوى، لعلة أراد الله أن أفوز بها، وابتلانى بمعاناتها، «تطعيم فاسد» ضد شلل الأطفال تسرّب إلى وزارة الصحة أوائل الستينات، كما علمت بعد ذلك. لا أستطيع السير، أصرخ لأمى أن احملينى، تحاول إقناعى بالمواصلة، فتغلبها دموعى، فترق وتحملنى، تغالب التعب وتسير قاطعة الأمتار، لكن الحمل ثقيل، وأنَّى لأم أن تحمل طفلها وهو يقترب من السادسة من عمره، يهزمها الضعف، فتترقرق أعينها بالدمع، وتفر منها العبرات، تحاول إنزالى إلى الأرض، فأبادرها بالبكاء، فتختلط دموع الرحمة بدموع التعب. إلى جوارها كنت أجلس، أستمع معها -أوائل السبعينات- إلى مسلسل «الأم»، ينساب صوت الراحل «محمد حمام» بأغنية «التتر»، عذباً رقراقاً، يختلط فيه الحنين بالأنين، وهو يقول: «ابنك الغريب يامّه.. عَ الدرب الغريب يامّه.. بتدور جروحه يامّه.. على بيت الطبيب.. يا أحن الأطبا عليه يامّه.. يا بحر الحنان الواسع اللى مالوش نهاية». كان صوت «حمام» يخترق عظامى الهشّة ويضرب مباشرة على وتر أعصابى، فأنظر إليها.. وعيناى تسأل: «من أمه تلك التى يغنى لها بهذا الشجن؟».. إنها مصر.. كذلك كانت تجيبنى، فأهز رأسى، وأحس وأشعر!
فى قلب الزحام دأبت عيناها على البحث عنى: «دائماً ما يأكلنى قلبى عليك»، كذلك كانت، ولم تزل تُردّد، منذ أن صحبتنى إلى المدرسة فى أول أيامى فى الدراسة، يمضغها القلق علىّ من زحامها، وهى تعلم أننى لا أقوى على السير أو الوقوف، وأن بمقدور نملة أن تخل بتوازنى، فما بالك بشقاوة الأطفال، فتوصى المعلمة بى، وتستحلفها بالله أن تعاملنى كولدها، فتلتقط المعلمة الحنون يدى منها، وتصحبنى إلى الفصل، تدعو الله -وهى تودعنى بنظراتها العطوفة- قائلة: «يا رب ياخد أى شهادة». أذكر جيداً أننا ضحكنا من قلبينا يوم صحبتها لكى تحضر مناقشتى لرسالة الدكتوراه، كنت أداعبها، قائلاً: «فاكرة لما كنتِ بتدعى لى آخد أى شهادة.. آدينى هاجيب لك الدكتوراه»، فتضحك راضية وتدعو لى. لكم أحب أن أبدو ضعيفاً أمامها كى أستحثها على الدعاء لى، لأننى أشعر أن دعاءها هذا هو سلاحى الأقوى فى معترك الحياة. تحب أمى أن تسمعنى، لكن شغفى بالاستماع إليها أكبر. تقول لى ضاحكة وعاتبة على طول لسانى: «واضح إن الداية لما جت تشدك.. شدتك من لسانك»، كثيراً ما تشكو لى إرهاقها فى تربيتى، وتتعجب منى، قائلة: «ولادتك كانت أسهل ولادة.. بس تربيتك أجارك الله». فى كل موقف لها حكمة قادرة على تعليمى، أشكو لها أولادى، فترد قائلة: «تربية العيال مش بالساهل.. أومال انت واخواتك اتربيتم إزاى؟!».. أجلس إلى جوارها ذات يوم وأقول لها: «عاوز أتجوز على مراتى»، فترد بابتسامة حكيمة وقول بليغ: «شال معزة زور.. قال إلحقونى بالتانية».. أشكو لها التعب، فتبادرنى قائلة: «أهل الشقا يا رب شقيهم، مشيو فى طريق الهنا عتر الشقا فيهم».. أصرخ معلناً رفضى أمراً معيناً، فتقول: «كل أول وله آخر».. أواسيها فى مرض، فتقول راضية: «افتكاره رحمة»، أعزيها فى قريب لها فتدعو الله: «يا رب.. يوم نزاعه.. يوم وداعه.. يوم نقابل رب كريم». كل كلمة من فمها حكمة، وكل نظرة من عينيها رحمة، وكل دعوة على لسانها منحة، وكل لحظة إلى جوارها حياة. أنا شخص محظوظ.. محظوظ للغاية.. تكبرنى أمى ببضعة وعشرين عاماً، وأنا الآن أقترب من الثانية والخمسين، طوال ما يزيد على نصف القرن لم أبتعد عنها، عشنا معاً طوال هذه السنين، حتى بعد أن تزوّجت، كان شرطى على زوجتى أن أمى معى، وكذلك أبى رحمه الله.
خلال هذه السنين الطويلة لم أفارق أمى إلا لسفر، ولك أن تتخيل أن أطول رحلة سافرتها لم تزد على 18 يوماً.. هل علمت كم أنا محظوظ بالعيش فى كنف تلك السيدة؟.. هل تتخيل معنى أن يعيش الإنسان فى حدائق حنان وبساتين عطف هكذا أم؟. اللهم زد فى حظى.. ومتع أمى -سيدتى وتاج رأسى- بالصحة والعمر»..
«رب اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب».