الأهرام
د. هالة مصطفى
السيد يسين
السيد يسين أستاذ علم الاجتماع المرموق ومدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام لما يقرب من الخمسة عشر عاما, صاحب الإنتاج العلمى الغزير, الذى يمزج فى كتاباته بين العلوم الاجتماعية والسياسية والفلسفة, ابن الطبقة الوسطى المخلص لها، هو عالم جليل ومُعلم لا يتكرر لأجيال من الباحثين والأكاديميين من بينهم كاتبة هذه السطور.
فقد التحقت بمركز الدراسات فور تخرجى فى الجامعة, الذى قضيت به معظم سنوات عمرى المهنى والأكاديمى, فى عهده وفى ظل رئاسته, التى كانت شديدة التميز والثراء ليس فقط فى النواحى العلمية وإنما -وهذا ما أركز عليه تحديدا- فى جوانبها الانسانية أيضا, وعندما نشعر بأننا قد نفقد شخصا عزيزا علينا فإن مواقفه الشخصية التى تبقى محفورة فى الذاكرة مهما ييطل الزمن, تكون هى الشىء الأصيل والمُتفرد فيه, فالآراء ووجهات النظر السياسية تتباين بالضرورة نتفق أو نختلف مع صاحبها، وقد ننساها بمضى الوقت, فليست هى التى تصنع فارقا أو تترك أثرا لا يُمحى.

للسيد يسين بالطبع توجهاته الفكرية التى لم يحِد عنها, فقد انتمى مبكرا لتيار اليسار, ورغم ذلك لم يسع يوما لفرض أيديولوجيته أو فكره على أحد, فظل لكل باحث أو باحثة شخصيته المستقلة, وقد كان منهم الليبرالى واليسارى والناصرى وأصبحوا من الأسماء الشهيرة اليوم. وهذه ميزة لا يتمتع بها رئيس عمل إلا نادرا, فأغلب المديرين خاصة فى المجالات البحثية يعملون على تخريج أناس يشبهونهم من هذه الزاوية أى يكونون «استنساخا» منهم, لم يكن هو كذلك. لم يحرص إلا على الالتزام بأصول البحث العلمى ثم بعد ذلك يكون التفكير الحر والاختيار الفردى, وهما معياران يؤديان تلقائيا إلى الإبداع والتميز. لذا كنت دوما أعتبره يسارى الفكر ليبرالى المسلك.

الإدارة علم, صحيح لها قواعدها المدروسة ولكنها لو افتقدت إلى «روح» من يمارسها لأصبحت جافة متعسفة وربما ظالمة, والذى يجمع بين الحسم والتسامح أو الحزم والتعامل الأبوى, يكون الإدارى المستحق للاحترام والحب معا, هكذا رأيت السيد يسين وأعتقد كثيرين غيرى رأوه على هذا النحو. لم أعهده معاقبا أو غاضبا للأسباب الروتينية المعتادة, فلم يكن يرى الباحثين كموظفين والفرق واضح. أما أمراض الإدارة المعروفة مثل الشللية والانحيازات الشخصية والانتصار لطرف على حساب آخر, فكانت بعيدة عنه, بهذا المنطق عالج الكثير من المشكلات والخلافات بين أعضاء الأسرة المهنية, أليس هذا درسا واقعيا يؤكد أن الإدارة القوية ليس شرطا أن تكون قاسية؟ وعندما أسست مجلة الديمقراطية وتوليت رئاسة تحريرها لمدى يزيد على 12 عاما كان نموذج السيد يسين فى الإدارة هو الماثل أمامى دوما.

أما الجانب الآخر الذى لا يُنسى فى شخصيته فهو حسه الساخر, يتجاوز به الأزمات ويُهونها على الآخرين, وإن لم يخل بالطبع من نقد لاذع لكثير من الأوضاع سياسية كانت أو اجتماعية أو سلوكية, فلا يُشعر الجالس معه بكآبة أو جدية مصطنعة, والنقطة التى أود تسجيلها هنا أن هيبة الشخص لا علاقة لها بدرجة تجهمه أو صرامته الظاهرية.

عندما وصل إلى السن القانونية لترك المناصب الإدارية, لم ألحظ أى تغَيُر عليه, احتفظ دائما بنفس الروح والعادات والسلوك. ورغم أنه قارئ من الدرجة الأولى فلم يكف عن «التعلُم» كما يحب أن يصف نفسه, كان يُحدثنى طويلا فى السنوات الأخيرة عن عالم الإنترنت وما بات يوفره من معلومات ومعرفة غير محدودة حتى أدركت أنه لم يفقد ميزة «الاندهاش» التى غالبا ما تُغادر الشخص فى مراحله العمرية المتقدمة.

أكثر من ذلك لم تنقُص سعادته عند صدور كتاب جديد له, حتى وإن احتوى على مجموعة من مقالاته التى ينشرها بانتظام فى جريدة «الأهرام» وكأنه كتابه الأول, لذا بقيت لإهداءاته لى على كتبه مكانة خاصة عندى.

عرفته أيضا عزيز النفس مُعتزا بكرامته, لا يشكو أو يتبرم من لحظات الوحدة أو الحزن أو المرض, هو من يبادر بالاتصال والسؤال عمن يحبهم دون أن يُحمِلهم إحساسا بالتقصير نحوه, ودائما ما يأتى صوته مبتهجا, وهو نفس الصوت, الذى تحدث به معى خلال مكالمتى الأخيرة له فور سماعى بنبأ مرضه, الذى أذاعه الإعلامى أسامة كمال, بل وبنفس روح الدعابة التى يتميز بها, قال «تناقشنا كثيرا حول نظرية فوكوياما (نهاية التاريخ) الآن تذكرى مقولتى إنها (نهاية الحياة). ولكن يا أستاذ سيد، وأنا أتمنى لك الشفاء، أؤكد أن حياتك ستظل مستمرة فى قلوب كل من يحبونك وأثرت فيهم حتى وإن خالفوك الفكر, فبصمتك الإنسانية باقية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف