الوطن
جمال عبد الجواد
«أبوتريكة» تحت التحفّظ
هو لاعب كرة رائع بلا شك، لكن هل هو ذلك الإنسان الطيب الخلوق هادئ الطباع، كما يُجمع كل من عرفوه؟ أم أنه الإخوانى المتطرّف الذى يستخدم اسمه ومكانته غطاءً لتمويل التطرّف والإرهاب؟ هذا هو السؤال الذى اختلف عليه الناس بعد وضع شركة سياحة يمتلكها محمد أبوتريكة وآخرون تحت التحفّظ من جانب اللجنة القضائية المسئولة عن حصر وإدارة أموال الإخوان.

القضية التى أناقشها هنا لا تمس ما اتفقنا عليه من ضرورة الامتناع عن التعليق على أحكام القضاء، فما نحن بصدد مناقشته ليس حكماً قضائياً محدداً، وإنما انطباعات الناس ومشاعرهم تجاه السلطات العامة التى تدير شئون حياتهم، بما فى ذلك السلطة القضائية التى يجب أن يُتاح لها أقصى قدر من الحماية تجاه العوامل التى قد تؤثر على قراراتها، بما فى ذلك تأثيرات الرأى العام الذى لا يكون دائماً على صواب، ولكنه يظل قوة يُحسب حسابها، سواء كان على صواب أو خطأ من وجهة نظر القائمين على إنزال القانون.

سمع كثير من الناس عن لجنة حصر وإدارة أموال الإخوان، لكن القليل منهم فقط تابع أنشطتها باهتمام. وضع شركة هنا أو مدرسة هناك تحت سلطة اللجنة.. قرار يشغل المعنيين مباشرة بأمر هذه الشركة أو تلك المدرسة، أما الرأى العام الواسع فقد تعامل مع الأمر حتى الآن بقليل من الاهتمام. وصول عمل اللجنة إلى «أبوتريكة» أخرج عمل اللجنة من هامش الاهتمامات إلى قلب متابعة الرأى العام، وعلى اللجنة أن تكون مستعدة للإجابة عن الكثير من أسئلة لم يكن مطلوباً منها الإجابة عنها من قبل، من نوعية القوانين المنظمة لعمل اللجنة، والمصدر الذى تستقى منه معلوماتها، والأدوات المتاحة لها، لتكوين رأيها المستقل بشأن جدية هذه المعلومات، وقواعد التظلم على قرارات اللجنة، وما إذا كانت اللجنة صاحبة القرار النهائى بشأن الأحكام الصادرة عنها، أم أن قراراتها تخضع لرقابة هيئة قضائية أعلى؟

دخول الرأى العام على خط عمل القضاء فيه تهديد لحياد القضاء وعدالته. فى الوقت نفسه، فإن ثقة الناس فى القضاء وعدالته أمر لا غنى عنه، فدون ثقة الناس تصبح أحكام القضاء فى نظر الناس مجرد شكل آخر من الهوى والتحكمية والعسف. والمعادلة فعلاً دقيقة، والخط فعلاً رفيع بين استقلال القضاء ورضا الرأى العام عنه.

القضاء ولجانه يتمتعون بحصانة ضرورية لتحقيق العدالة المجرّدة، وهى الحصانة التى تضمن لهم الحماية من رد الفعل على أحكام يصدرونها على غير هوى البعض. بغير هذه الحصانة لن يكون ممكناً للقاضى ممارسة عمله، وما أمكنه وضع سارق وراء القضبان، أو تسليم قاتل إلى حبل المشنقة، فإذا خاف القاضى على أمنه الشخصى بعد كل حكم يصدره لما استطاع إيقاع العقوبة على أى مجرم. فى ظل الدولة القوية يصدر القاضى حكمه غير متحسب سوى لنص القانون وضميره، أما رد فعل الرأى العام فذلك أمر تقع تبعة التعامل معه على عاتق سلطات أخرى، وكثيرة هى المرات التى تحمّلت فيها أجهزة السياسة والأمن عبء احتواء رد الفعل الغاضب لأهل محكوم عليه بالإعدام، أو رد الفعل المتشكك لحكم البراءة على متهم يراه قسم كبير من الرأى العام مذنباً. فالقضاء العادل لا يمكن له أن يوجد إلا فى ظل دولة قوية قادرة على حماية استقلاله، هذا من ناحية. أما من ناحية أخرى، فإن أحكام القضاء عليها أن تعزز الدولة والنظام العام، وإلا أدت إلى تدمير البيئة المناسبة لقيامها بوظيفتها وأداء عملها.

التحفّظ على أموال «أبوتريكة» فيه جرأة لا يمكن إنكارها، وهو قرار ينطوى على رسالة قوية بأنه لا أحد فوق القانون، وأن اللجنة لن تتردّد فى إخضاع كائن من كان لسلطتها، طالما كان قانون عملها يسمح بذلك. سيادة القانون هى القاعدة الوحيدة التى تحكم عمل اللجنة، أما الرأى العام فهذه مسألة لا تشغل القائمين على تطبيق القانون، فعدالة القانون معصوبة العينين، لا تميز بين الناس. هكذا يجب أن تكون الأمور.

لجنة حصر وإدارة أموال الإخوان تعمل فى مصر المضطربة التى تمر بمرحلة انتقال شديدة الحساسية والصعوبة، وفى هذه البيئة فإن قليلاً من الأمور فقط هو الذى يسير وفقاً لما يجب أن تكون عليه الأمور، أما أغلب شئوننا فيتم إدارته وفقاً لاجتهادات تحاول المواءمة بين ما يجب أن يكون وما هو ممكن. فى ظل أوضاعنا الراهنة صدرت أحكام قضائية عدة احتار الناس فى تفسيرها، وما إذا كانت هذه الأحكام من باب التطبيق الموضوعى للقانون، أم أنها من باب المواءمات التى يجب القيام بها بحثاً عن نقطة التوازن بين القانونى والسياسى، أو بين استقلال القضاء ومصلحة الدولة التى يعمل القضاء فى ظلها، ويعد جزءاً لا يتجزّأ منها؟ ومن ذلك أحكام الإعدام التى أصدرتها محاكم للجنايات بحق متهمين عديدين بالإرهاب قبل أن تعود محكمة النقض لتدلى فى الكثير منها برأى مختلف، الأمر الذى أثار تساؤلات حول ما إذا كانت محاكمنا تطبّق القانون بالطريقة نفسها، أم أن بعضها يذهب إلى مدى أبعد، بحثاً عن المواءمة بين القانونى والسياسى؟

ولأن المواءمة أمر لا مفر منه حتى فى أحكام القضاء، ولأن الرأى العام له أهمية لا يمكن إنكارها، فإن ضرورات المواءمة تفرض على سلطة القضاء تحرى مستويات فوق العادة من الشفافية والوضوح وإتاحة المعلومات الكاملة عندما يتعلق الأمر بقضايا الرأى العام، وهذا هو ما ينتظره الناس من لجنة أموال الإخوان فى قضية «أبوتريكة».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف