من الشارع إلى قاعة المحكمة صعدت عبارة «أيام مبارك كانت أفضل من هذه الأيام» على لسان أحد المحامين، خلال نظر محكمة النقض الاتهامات الموجهة إلى الرئيس الأسبق بقتل المتظاهرين خلال ثورة 25 يناير. البكاء على الأيام الخالية يشكل جانباً رئيسياً من ثقافة المصريين، فالماضى -فى نظرهم- أفضل من الحاضر، والحاضر خير من المستقبل. وتقديرى أن هذه النظرة التشاؤمية غير واقعية بالمرة، وتتنافى مع منطق الحياة. عندما قامت ثورة يوليو 1952، ظهر فى حياتنا من يتباكى على حكم الملك، وأيامه الحلوة، وكان السفه يدفع بالبعض إلى الحديث عن أيام الاحتلال «الهنية»، وعندما رحل عبدالناصر، ظهر بين الناس من يقول «أيام عبدالناصر كانت أحسن»، وعندما رحل «السادات»، ظهر من يقول «أيام السادات كانت أحسن»، وعندما خرج «مبارك» من الحكم فى ثورة يناير، ظهر من يقول «أيام مبارك كانت أفضل»، ولست أستبعد أن يكون بين المصريين اليوم من يردد «أيام مرسى كانت أفضل».
وحقيقة الأمر أنه لا يوجد أيام أفضل، وأخرى أسوأ، ومن العبث أن يهدر الإنسان السياق، ثم يتحدث عن الظواهر والأوضاع البشرية. فمشاكل اليوم تجد جذورها فى الأمس، وتحديات المستقبل تجد مقدماتها فى أحوال اليوم الذى نعيشه، وبالتالى قد تكون المشكلة التى تعانى منها اليوم نتيجة طبيعية للممارسات التى شهدتها تلك الأيام الخالية التى يتباكى البعض عليها، وتستعيدها فى خيالك. فى كل الأحوال الحكم على التجارب الإنسانية يستلزم استحضار السياق الذى تفاعلت فيه، فالإنسان -أى إنسان- ابن ظروفه. ولست أجد أى منطق فى إرجاع تحسن أو تراجع الأوضاع خلال فترة زمنية معينة إلى شخص بعينه. فهذا اختزال لا يليق بعاقل. نعم قد يكون أداء هذا الشخص سبباً ظاهراً لما يحيق بأحوال البلاد والعباد من تحسن أو تراجع، لكن الأسباب الأهم تجدها فى الظروف والملابسات التى أحاطت به وهو يؤدى. السياق هو الذى يحدد نوع الأداء وطبيعته وتوجهاته، فلو حكم ثوار يوليو أيام الملك، لأدوا كما أدى «فاروق» ومن سبقه، ولو حكم «السادات» فى الستينات لأدى مثلما أدى «عبدالناصر»، ولو حكم «ناصر» فى السعبينات، لسلك الكثير من المسالك التى سلكها «السادات». فكل عصر وله ظروفه، وللمصريين مثل مبهر يعكس هذا المعنى، يقولون فيه: «كل عصر وله أدان». ربما يكون هذا المثل قد نشأ على خلفية التحول من المذهب السنى إلى الشيعى أيام الفاطميين، ثم العودة إلى المذهب السنى من جديد أيام الأيوبيين!.
لست أشكك فى حقيقة أن «القديم له سحره»، لكنك لا تستطيع أن تحيا فى ظلاله فى أيامك الجديدة، كثير من أفراد الطبقة الوسطى فى مصر انتقلوا من مساقط رؤوسهم فى الأحياء الشعبية العشوائية إلى أحياء أخرى أكثر نظامية، ولعلك تلاحظ أن أغلبهم يتحدثون بقدر كبير من الحنين عن الأحياء التى ولدوا فيها ورتعوا فى أنحائها خلال فترة الصبا، وقد تجدهم يرددون عبارة «أيامها كانت حلوة»، لكن هل يقدر أحدهم على العودة إلى الحى الشعبى الذى خرج منه ليعيش فيه أيامه الجديدة؟ أشك!. عموماً إحنا فيها.. «مبارك» موجود، وحصل على البراءة من تهمة قتل متظاهرى الثورة، والعام المقبل سيشهد انتخابات رئاسية جديدة، رجعوه لو حبيتوا..!