الجمهورية
سمير الجمل
"مهزلة" وقالوا "ملحمة"
أبوالعلا البشري وأبوهيبة يكشفان دولة "العطارين" الدموية الخربانة!!
دولة العطارين لها علمها وخاتمها وسلاحها.. وسجنها وقانونها وهي تمارس كل شيء كأنها دولة مستقلة.. إذا أصدر المرحوم كبيرهم زين العطار أمراً فلا نقضي ولا إبرام.. حتي اللواء كبير الشرطة ينصح ضابطه المتحمس لتنفيذ القانون بات يبتعد عنهم ويلعب علي "قوة".. ثم في مشهد من المشاهد تري كبير الشرطة هذا.. يتفاوض مع أحد أفرع العطارين كأنها مباحثات "حل الدولتين".
* ابتسم ولا تندهش فأنت أمام "الأب الروحي" ذلك الفيلم العالمي في نسخته البلدي التي يأملون تقديمها في أكثر من جزء "يا تري من يعيش؟!" علي هيئة مسلسل تليفزيوني نتحدث عن الجزء الأول منه وفيه نري "الكبير" وقد اختار ولي عهده ثم مات جالساً علي أريكته بعد أن أعطي لابنته أوراقه الخاصة لكي توصلها إلي أخيها غير المعروف في داره التي جمع فيها أولاد الضياع لكي يكونوا رجاله.. وهي الدار التي تدق أجراسها إذا جاء "زين" يلقي عليهم وصاياه.. ومن خرج من علي قانون الدار فإن السجن الخصوصي مأواه.. وتراه نازلاً من سيارته وقد اصطف عياله أو أولاد الدار علي الصفين يلقون عليه التحية والورود ولا تندهش إذا وجدت لعمل زين ولداً في حارة أو آخر بين أيتام الدار.. ولا تسأل عن علاقات هذه الأسرة بأفرعها المختلفة ببعضهم البعض وستعرف في سياق الأحداث وعلي استحياء أنهم تجار سلاح.. وفي مصطلحات حوارهم شحنة وبضاعة وكما أن لهم أعوانهم بالأجرة أو بالقرابة ستجد أن لهم من يعاديهم وينتقم منهم جهاراً نهاراً.. حيث نري الرجل الذي كان يتم إعداده لخلافة "زين" وقد قتلوه في بيته.. وانطلق الرصاص من هنا وهناك في مولد دموي خصوصي.. حيث لا دولة ولا شرطة ولا أحد إلا العطارين ومن معهم أو ضدهم.
أهل الدم
تقول أرملة زين لابنها الذي فر هارباً بعد اتهامه بقتل ضابط شرطة يا ابني كفاية دم.. ويكون جوابه: الدم تجارتنا يا أمي.. ويجب أن تمضي في الطريق إلي آخره.. حتي إذا ما عثر زميل الضابط المقتول علي القاتل.. تمت المواجهة بمنتهي البساطة وعاد الضابط منكسراً.. لأن زكريا المطلوب للعدالة أشار إلي رجاله بعدم الاقتراب منه في مشهد يلخص لك حالة "المناخوليا" الدرامية التي تجدها في اسم الكاتب هاني سرحان في مقدمة الحلقات باعتباره صاحب المعالجة الدرامية.. فإذا وصلت إلي تتر نهاية الحلقة ستجده شريكا في السيناريو والحوار مع آخر هو محمد جلال.. وهي حالة غريبة لأن المعالجة التي جرت لموضوع مقتبس بسذاجة لا ترقي أبداً إلي جهد كتابة الحلقات لكنها واحدة من الخلطات العجيبة في هذا المسلسل الموصوف بأنه "ملحمة" وكأنه الإلياذة ولمؤاخذة ولا رضاء أصحاب الأدوار الخاطفة التي سيحل عليها الدور في الموت الدرامي بعد حلقة أو اثنتين.. ثم توزيع الألقاب والإكراميات علي حشد كبير من الممثلين والممثلات في جعل التتر في حد ذاته "ملحمة" زائدة عن الحد.. فيها لقب نجم أو نجمة وقد تحول إلي إكرامية معنوية لمن يستحق أو لا يستحق.
"الأب الروحي" الذي أخرجه الشاب بيتر ميمي فيه جهد إخراجي لكنه كمن يصرف أمواله التي جمعها من هنا وهناك علي الراقصات والعربدة في الكباريهات بعد أن جمعها بالجهد والعرق.
الحلال والحرام
لن أتوقف أمام الفكرة الرئيسية ل "الأب الروحي" التي ضاعت في تفاريع لا أول لها ولا آخر.. وحاول كل ممثل أن يرسم دوره بخبرته وأن يدلع نفسه بقدر استطاعته "إيهاب فهمي- أحمد راتب- أحمد عبدالعزيز- سوسن بدر".. وأطلق العقر لطفي لبيب بظرفه ولطفه في دور "الرايق" وكان من الحسنات القليلة.. ولكنها لم تفلح أن تمنع "البلاوي" الكثيرة.. فالمسلسل لا هدف له إلا الإثارة الكر والفر. وكل شخصية عندها مبررات سقوطها.. والكارثة أن التشابه في الشخصيات والمواقف توالي بوضوح.
وأنت تستطيع أن تدرك حالة الفوضي الدرامية في المسلسل إذا ما قارنت بينه وبين عمل آخر لنفس الشركة المنتجة.. وأقصد مسلسل "جبل الحلال" فيه أيضا "كبير" وصراعات عائلية وخارجية وتجارة سلاح.. حتي أنهم استخدموا بعض الاكسسوارات نفسها في العملية منها مكتب الكبير الذي تزينه بندقية وبعض أماكن التصوير نفسها علي أساس "ماحدش واخد باله".. لكن في "الحلال" أمامك حوار جيد يحقق التوازن في المسلسل بين شخصية قد تكره سلوكها لكنك تتعاطف معها إنسانياً.
وإذا أردت المزيد من المقارنة ستجد أن نفس القناة التي تذيع "الأب الروحي" كانت تقدم في ذات الوقت رائعة أسامة أنور عكاشة ومحمد فاضل "أبوالعلا البشري" البشري يدفع ثمن مثاليته في محاربة الخطأ والعوج والفساد.. لكن العطاء يدافع عن مملكة الدم التي شيدها علي أجساد خصومه التي تبلغ حد اصدار حكم الإعدام علي "الرايق" بتهمة الخيانة ثم يؤجل التنفيذ في حركة درامية لا معني لها.. خاصة أنه يمثل ملعقة "سكر" أمام براميل طرشي حادة ولاذعة.
البشري سلاحه إنسانيته التي يربي عليها عزوته ومصدر فخره إنجازه الخلقي والعملي في بناء السد العالي وبذلك هو مرتبط بالمجتمع الصغير.. ثم بالوطن كله. لكن العطار سلاحه الدم وتجارته السلاح مهما حاول أن يتجمل إنسانياً مع بعض عياله وزوجته.. وما أكثر عياله وزوجاته وهو سلطة شاذة وخاصة ضد سلطة مجتمعه.
وكما قال أوسكار وأيلو: الحياة لا تصنع الفن.. لكن الفن يصنع الحياة.. بمعني أننا لا نأتي بالواقع نعرضه بكل مرارته وأوجاعه.. لكننا بالفن نعيد صياغة الواقع نحو الأفضل والأجمل.. وإلا ما معني الفن وما قيمة الفنان إذا كان صوته في نشر الانحطاط أعلي من صوته في نشر الفضيلة وترسيخ مفهوم الحرام علي حساب الحلال.. وكم من العلاقات التي رأيناها في المسلسل تحت هذا العنوان دون أن يقابلها ما يوازنها من العلاقات السوية؟!.. وفي حلقة واحدة رأينا أكثر من علاقة بين ولد وبنت دون زواج.. أبرزها صالح العطار الذي يفخر بأنه تربية أوروبية.. هذا الخلل الأخلاقي المبني علي خلل درامي يجعل الحمولة الشيطانية زائدة علي مسلسل اجتماعي يدخل البيوت ويبدو أن انتاج الدراما بمنطق الملهي الليلي أصبح هو السائد بحجة أن شلة الهلس أكثر ربحاً.. وهو منطق عبيط لأن "ليالي الحلمية" وفيها من الشر ما فيها ومن الخير أيضا كانت الأعلي نسبة للمشاهدة علي مستوي العالم العربي وحققت ربحاً لا قبله ولا بعده.
ثم أن وسائل الترفيه في الفضائيات والإنترنت أصبحت متاحة ومجانية.. لكن الفن هو الذي يبقي ويعيش.. وفي ظل حالة "الرطرطة" البرامجية التي تري فيها أغلب الفن لزوم "النحت" والمجاملات والتكويش حولت الممثل إلي "ثور أعمي" من يمتلك إدارته يوجهه.. حيث يريد بصرف النظر عن نتائج فعله والخيبة الكبري في صناعة الدراما التي غاب عن أغلب إنتاجها الابتكار والإبداع ولجأت إلي الاقتباس الأحمق مع زيادة أعداد الحلقات علي غرار التركي والهندي والمكسيكي.. ناهيك عما تحمله هذه النوعيات من أوبئة أخلاقية بل وفنية وأنت قد تقبل فنيا ما تختلف معه أخلاقياً.. لكن إذا كان السقوط والتدني هو عنوان الشكل والمضمون مع توفر الامكانيات التكنولوجية الكفيلة بإنتاج أعمال علي أعلي مستوي.. وانظر مجدداً إلي مابين العطار والبشري لتعرف أننا قد قفزنا إلي صورة سينمائية وإيقاع سريع وإبهار شكلي.. لكنه من حيث المضمون هواء يذكرني في ذلك بمن يرتدي بدلة من أشيك بيوت الأزياء الفرنسية وهو يمشي حافيا أو لا يعرف الاستحمام طريقا إلي جسده.
سؤال لابد منه
لا بأس من تقديم جميع أنواع الدراما.. وكلها مطلوبة لكن الفنان الحقيقي يضع نصب عينه اختيار التوقيت المناسب للموضوع الذي يقدمه.. فما يعرض اليوم قد لا يصلح إلا بعد سنوات أو منذ سنوات وبمنطق التوقيت والظرف الحالي نجح عادل إمام أن يظل علي القمة وفشل غيره وانقطع أثره وهو في الحقيقة قد يكون أكثر موهبة وثقافة من عادل.. لكن الأخير كان الأكثر ذكاء وإحساساً بناسه ووطنه في كل وقت وحين.
لقطة
يا عطارين دلوني.. الصبر فين أراضيه علي هذا العبث الدرامي!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف