الوطن
د. محمود خليل
طبقة فى ورطة (3)
على مدار ثلاثين عاماً علّم المخلوع أفراد الطبقة الوسطى أن تشخص ببصرها إلى الطبقة المخملية وتتطلع إليها، وتحلم بمستوى معيشتها، فأصبح حصد الأموال هدفها الأول، حتى تتسلح به كوسيلة لإثبات التفوق داخل الطبقة، وكأداة -إذا تيسر ذلك- لخرق السقف والانتقال إلى الطبقة الأعلى، وانخرط أفرادها فى حالة من اللهاث تتشابه مع ذلك الرجل الذى كان يحلم بأن يمتلك قطعة أرض، فعرض عليه أحد كبار الأغنياء تحقيق ما يريد، ووقف معه على رأس مساحة شاسعة من الفدادين وقال له: «اجرى» فوق هذه الأرض المسافة التى ترتضيها وضع علامة على المساحة ثم «كِر» راجعاً إلى النقطة التى نقف عندها قبل غروب الشمس، والمسافة التى ستقطعها فى هذا العدو ستكون ملكاً لك. وبدأ الحالم بالأرض فى الجرى، كلما جرى متراً طمع فى غيره، أخذ يجرى ويجرى، ثم تذكر مسألة العودة قبل غروب الشمس، فاستدار عائداً وقد بلغ منه التعب مبلغه، فسقط قبل أمتار من الموضع الذى بدأ منه السباق.

كم من الأرض يحتاج الإنسان؟!. هذا السؤال أتصور أن أفراد الطبقة الوسطى بحاجة إلى التوقف وطرحه على أنفسهم. وسوف يهديهم تفكيرهم إلى الخطأ القاتل الذى وقعوا فيه حين استسلموا لفكرة التنافس والتطلع وجعل المال أولوية فى الحياة، حتى يحيوا تلك الحياة المخملية الساذجة. نسى أفراد هذه الطبقة أن أغلبهم ينتمى بجذوره إلى الطبقة الفقيرة، عليهم فقط مراجعة خرائطهم العائلية حتى ينعشوا ذاكرتهم بـ«الأصل» الذى انحدروا منه، وكان الأولى بهم أن يولوا وجوههم شطر هذه الطبقة، ويفهموا أن «علامهم» و«شهاداتهم» و«وعيهم» تشكل من قروش الآباء والأمهات «الشقيانين»، وأن للفقراء فى رقابهم ديناً لا بد أن يوفوه، ليس من خلال مساعدتهم بالمال، أو باحتياجات الحياة (وهو أمر مطلوب ولا شك)، ولكن من خلال الدفاع عن حقوقهم والسعى إلى قيادة الدولة نحو مجتمع أكثر عدلاً وانحيازاً إلى التنمية الحقيقية، وأشد إيماناً بفكرة النهضة الشاملة، كان الأوجب على هذه الطبقة والأوجه بالنسبة لها أن تنتفض ضد فكرة الثراء القائم على نهب الأصول المالية وبيع الأصول الأخلاقية، الذى ساد فى عصر «المخلوع»، لكنها للأسف جعلت من مراكز الثراء القائم على الفساد قبلة لها.

شاركت الطبقة الوسطى بقوة فى ثورة 25 يناير 2011 مدفوعة بإحساس بالغبن وإهدار الكرامة، لم تشارك بالطبع كلها، بل شريحة منها تأكد هذا الإحساس داخلها بشكل أعمق من غيرها من شرائح الطبقة. فرحت عندما ساهمت فى خلع «مبارك»، لكن ثقافتها الرذيلة منعتها من المواصلة، لا لشىء إلا لأنها أرادت أن تحصد بشكل سريع المكاسب التى تعودت عليها، فتعجلت الخروج من الميدان مدفوعة بثقافتها التى تربت عليها فى عصر المخلوع. وتحت وطأة السعى إلى الاستحواذ على المكاسب والتفوق على الغير وقعت هذه الطبقة فى مأزق أشد، تمثل فى العجز عن التوحد على رأى أو الوصول إلى اتفاق فيما بين عناصرها التى قدمت نفسها أو قدمها الإعلام أو المجلس العسكرى كرموز معبرة عن ثورة يناير، وأخذوا ينسقون مع «المخملية» المالية والعسكرية والسياسية، ولم يفهموا أنهم نسوا أنفسهم حين نسوا أصولهم التى وفدوا منها، وانساقوا وراء أفعى تعرف كيف تبدل كل آونة إهاباً!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف