المساء
مؤمن الهباء
السلطة.. والشفافية
أعجب أشد العجب من المحاولات العلنية المستميتة التي تقوم بها بعض الوزارات والهيئات بالدولة من أجل عدم الخضوع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات.. وقد وصل الأمر ببعض هذه الجهات إلي رفع دعاوي قضائية أمام مجلس الدولة أو طلب فتاوي قانونية تخرجها من دائرة رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات.
ووجه العجب هنا ان هذه الجهات والهيئات - ومنها جامعات خاصة يساهم المال العام في رأسمالها - تكاد تنبئ عن خبيئتها بإصرارها علي عدم الخضوع لمراقبة الجهاز المركزي للمحاسبات.. وكأنها تقول دون أن تدري إن لديها ما لا يراد الكشف عنه.. ويجب أن يظل محجوبا عن رقابة الدولة والرأي العام.
ولا يغيب عن الجميع في بر مصر أن الخضوع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات وغيره من الأجهزة الرقابية في الدولة هو نوع من الاستجابة لدواعي الوطنية والسيادة المصرية التي نتغني بها ولا نريد الخضوع لها.. والتزام بالدستور والقانون قبل أن يكون إبراء للذمة وحرصا علي الشفافية والوضوح وضمانة للاستقامة.. فالمال السايب يعلم السرقة.. والسلطة المطلقة - بلا رقابة تلجمها - مفسدة مطلقة.
وقد أصدرت الجمعية العمومية لقسمي الفتوي والتشريع بمجلس الدولة مؤخرا مجموعة من الفتاوي القضائية بناء علي طلبات رأي قدمت لها.. انتهت فيها إلي خضوع عدد من الجهات والهيئات بالدولة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات كان آخرها اخضاع المجلس القومي لحقوق الإنسان.. كما أصدرت هيئة مفوضي الدولة تقريرا بالرأي القانوني أوصت فيه بإخضاع إحدي الجامعات الخاصة التي يساهم المال العام في رأسمالها لرقابة الجهاز.
وفي احتفال نادي قضاة مجلس الدولة بيوم الوفاء - الجمعة 24 فبراير الماضي - أدلي المستشار جودت الملط الرئيس الأسبق للجهاز المركزي للمحاسبات ورئيس مجلس الدولة الأسبق بتصريحات صحفية أثناء تواجده بالاحتفال استنكر فيها ما وصفه بظاهرة "رغبة" بعض الجهات والهيئات بالدولة في عدم الخضوع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات".. مؤكدا أنه خلال ولايته في رئاسة الجهاز لم تكن هناك اشكالية في خضوع هيئات ومؤسسات القطاع العام التي يساهم المال العام في رأسمالها للرقابة المحاسبية والقانونية من قبل الجهاز.. بما في ذلك علي سبيل المثال أعضاء السلطة القضائية أنفسهم.. وطبقا لقانون الجهاز المركزي فإنه يناط بالجهاز مراقبة جميع الجهات والهيئات الحكومية دون استثناء.
وقال المستشار الجليل إنه أثناء رئاسته للجهاز كان يرسل تقارير الفساد إلي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الشعب ورئيس الحكومة والوزراء والمحافظين المختصين.. كما كان يرسلها بدون أن ينص القانون علي ذلك إلي هيئة الرقابة الإدارية.. وفي حالة ما إذا كانت المخالفات الواردة بتلك التقارير تشكل جريمة جنائية كان يبلغ بها النائب العام.. ولو كانت تشكل مخالفة تأديبية كان يرسلها للنيابة الإدارية لاتخاذ الإجراءات القانونية حيالها.
الآن - للأسف - الوضع اختلف.. هناك هيئات ووزارات تستعلي علي الدستور والقانون.. وتستعلي علي الأجهزة الرقابية التي تمثل عين وضمير الشعب المصري.. صار هناك من يطالب علنا وبدون حياء أن تنظر ميزانيته رقما واحدا دون مناقشة.. ويعتبر أن الميزانية أمن قومي لا يجوز لأحد خارج هيئته الاطلاع عليها أو مناقشتها ناهيك عن مراقبتها.
كلهم يتغنون بالشفافية لكنهم لا يعرفون شيئا عن الشفافية.. يكرهونها.. مع أن الرقابة علي التصرفات المالية من سمات المجتمعات المتحضرة.. الرقابة ليست انتقاصا من السلطة.. بل هي ضمان لاستقامة السلطة وحمايتها من نفسها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف