الأخبار
محمد السعدنى
حمدي مرسي: لايزال للنضال بقية
أكتب كي لا تكون وحيداً، هكذا نصحني منذ سنوات العم جمال الشرقاوي مدير تحرير الأخبار الأسبق رحمه الله، واليوم أكتب وحيداً بعد أن فارقنا من كان بهجة الفكر وونس الدنيا ورصيد الوطن وبهجة الحياة. أن تكتب عن قامات وطنية في حجم حمدي مرسي وجمال الشرقاوي وأبو العز الحريري وزكريا قطب وعاطف جلال ومحمد عباس وعلي أبو سن، فأنت لا تكتب تنعي الرجال، إنما تنعي جزءاً عزيزاً من وطن وبقايا غالية من ذاكرة النضال من أجل الحياة والناس والحرية. اليوم رغم أنني لاأزال أكتب أشعر بالوحدة وتؤلمني الخسارة الفادحة، ورغم أنهم: رأفت نوار وعصام السعدني ومحمد بدير وجلال أبو الفضل وأمين الخولي يحاصروني كل ساعة بحجة أخبار الجنازة وترتيبات العزاء، إلا أنني أعرف خوفهم وإشفاقهم من أن أكون في هذه اللحظة وحيداً، فما أضعف الإنسان أمام الأقدار مهما عز ومهما قوي.
حمدي مرسي المفكر والمناضل الوطني زميل معتقل الواحات من 1959 - 1964 مع جمال الشرقاوي وإسماعيل صبري عبد الله وعمر التلمساني وفخري نوار وعبد الرحمن الشرقاوي وشهدي عطية ونبيل زكي ومحمود أمين العالم وصنع الله إبراهيم وزكي مراد ولطفي الخولي وعبد الرحمن الخميسي، وزمرة المناضلين القابضين علي جمر الوطن. كانوا في سجون عبد الناصر لكنني لم أسمع من أحد منهم، أقصد أقطاب اليسار والماركسيين كلمة تهين عبد الناصر أو تنهش تجربته كما اعتاد اليمين الفاشي، علي العكس كانوا يعتبرون خلافهم مع عبد الناصر قضية خلاف فكري لا قطيعة وطنية، وكما سمعت من حمدي والشرقاوي رحمهما الله، أن التناقض مع تجربة عبد الناصر كان تناقضاً ثانوياً وليس تناقضاً رئيسياً، والفارق بينهما في الأدبيات الماركسية كبير. وكانوا يرون عبد الناصر زعيماً وطنياً لا نقاش، وهكذا سمعت أيضاً من جمال الغيطاني رحمه الله.
رقد حمدي مرسي في سلام فمثله لا يهزمه الموت، هي استراحة المحارب وقيلولة من تمسك بالحياة والحرية حتي أننا لم نصدق لحظة أنه لابد يوماً مفارقنا إلي مثواه الأخير، ذلك أنه رغم عمره المديد إلا أنه احتفظ بلياقته الذهنية والجسدية حتي لحظة الفراق. كان رغم ثرائه المادي والفكري بسيطاً متواضعاً وهو من هو، في مجلس الشعب والحياة الحزبية والحركة الوطنية وهو من علامات مجتمع القاهرة قبل موطنه السكندري. كم تحلقنا حوله في الصالون الثقافي للجمعية الوطنية التي أسسناها في الأسكندرية مطلع التسعينيات، وهو مقصد الزعماء التاريخيين للحركة الوطنية والسياسية، وقبلهم الشبان والطلاب والعمال. ظل مشتبكاً مع الشارع والناس بين الجماهير بكل دأب وكأنه شاب في مقتبل العمر. كان نموذجاً فريداً في الوعي والعمل وحب الحياة، كانت رؤيته صافية وكم بسط لنا أعقد المعضلات في الفلسفة المادية الجدلية، والمادية التاريخية، وتصالح مع كثير من المقولات الماركسية علي غرار: »لكل حسب حاجته ولكل علي قدر عمله»‬ وكان يقول بالذمة يا دكتور مش ده بالضبط القرآن: »‬وأن ليس للإنسان إلا ما سعي وأن سعيه سوف يري ثم يجزاه الجزاء الأوفي» - »‬النجم 39-41»، كان لا يقبل جمود الفكر ولا ديماجوجية الحوار، وكانت شروحه للصراع الطبقي مدخلاً لفهم المجتمع والدولة والإقليم والعالم.
عاش مهموماً بالوطن ومات مهموماً بالناس حزيناً علي مآلات الثورة التي كان واحداً من المحرضين عليها الفاعلين فيها. كانت رؤيته للتاريخ جزءاً من الرهان علي المستقبل، وكان شديد الإيمان بحتم انتصار القيم الإنسانية في مواجهة تشيئ الناس وتسليعهم بفعل توحش الرأسمالية والتجليات الاقتصادية للعولمة والشركات العابرة للقوميات، وكان في شروحاته للماركسية أقرب لفكر أبو ذر الغفاري ورؤيته الاشتراكية للإسلام. كان له أصدقاء وتلاميذ ومريدون أينما ذهب وأينما حل في الأسكندرية، لم يتكالب يوماً علي منصب أو مغنم ولم يقبل أبداً في سبيل الوطن الدنية. كان مترفعاً متسامحاً حاداً حاسماً، مثل المثقف العضوي في كل حياته وتحقق دائماً بما يقوله ويدرسه للناس. مصر لم تخسر اليوم حمدي مرسي، لكنها خسرته - كما يقول عصام السعدني - يوم صادرته في الشارع وأسقطته في الانتخابات، فكان مثالاً لمحنة المناضل المثقف مع السلطة، فلا هو مالق ولا نافق، ولا هي سمحت له أن يعمل ولا أتاحت له أن يمر.
للحظة بعد أن هزني الخبر تذكرت إلحاح حمدي مرسي الأربعاء الماضي في لقاء يجمعنا كالعادة في الأسكندرية، كنا قد رتبنا لأنفسنا الخميس موعداً للقاء، لكن هذه المرة كان هناك إصرار علي الأربعاء عرفت الآن سره. كلمني نوار بحسم منتظرينك وحمدي مرسي في الطريق. في الطريق من أكتوبر للأسكندرية كانت خيالات الوجد والصب تحاصرني، قلقت يوماً أن أصير وحيداً رغم كل الدنيا المزدحمة حولي. حسبتها نوستالجيا وخوفاً من المجهول وقلقي علي الوطن. لم أكن ساعتها أعرف أنه عشاء الوداع اختاره حمدي مرسي علي مقربة إطلالة من كورنيش الأسكندرية. كان ودوداً كعادته لكن هذه المرة كان عاطفياً بشكل كبير، قال: الدنيا مابتبقاش حلوة إلا لما تيجي وتجمعنا. دار الحوار واختلست إليه دون أن أدري نظرة فقرأت في عينيه ومحياه الرضا والتصالح مع النفس. لكم تمني حمدي مرسي أن يموت كما الأشجار واقفاً وحقق له الله رجاه، فهو الذي مضي بقطار عمره من محطة لأخري قاصداً وجه الوطن. كان هذه الليلة أكثر صفاءً ولم أفهم سر عناقه الدافئ لنا جميعاً مع بشائر فجر الخميس وهو يودعني إلي السيارة، قلت أنتظركم الخميس القادم بإذن الله في أكتوبر، تواعد الجميع، إلا هو فقد تمتم بما لم نسمعه. هل كان يعرف حمدي مرسي أنها النهاية، وأنه آن للفارس أن يترجل؟ غريبة هذا كلام نعرفه ويقال كثيراً إن الأولياء والطيبين يشعرون بزائر الموت ودنو الأجل، فهل للماركسيين واليساريين كحمدي مرسي إشراقات وفيوضات وتجليات؟ وأقولها بحسم العالم المشتغل بالعلم لا الغيبيات، ومن قال إن السائرين في محراب الوطن والمناضلين من أجل الحق والحرية بإخلاص وتجرد ليسوا أولياء وليسوا طيبين؟
مات حمدي مرسي ونعاه عنا رأفت نوار رفيق الدرب الطويل، وأحسبه باقياً في ضمائرنا علامة في تاريخ نضالنا الوطني وقبساً من ضياء الفكر والسياسة حولنا. ترجل الفارس وأحسب أنه لايزال لنضاله بقية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف