الوفد
علاء عريبى
طالعين لوش النشيد
تعرفت على الشاعر طاهر البرنبالى فى منتصف الثمانينات، كنت أعمل بمجلة القاهرة الثقافية، كانت تصدر أسبوعيا عن الهيئة المصرية للكتاب، برئاسة تحرير الأديب الراحل عبدالرحمن فهمى، وكان يتردد على المجلة معظم الشعراء والأدباء، وبحكم عملى كصحفي بالمجلة كنت ألتقى بأغلب المثقفين والمبدعين فى المجلة، وفى أماكن تجمعهم، وفى الثمانينات كانت أهم أماكن تجمعهم: أتيلييه القاهرة، ومقهى زهرة البستان، والمتيسر منهم كان يمكن أن تلتقيه مساء فى أوديون، وبار فندق كوزموبوليتان، والجريون، وفى النادى اليونانى، وفى مقهى ريش.
طاهر البرنبالى رحمة الله عليه، كان مثلنا من الصعاليك، الذين بالكاد يعيشون على راتبهم وما يستدينونه من الأصدقاء، كان علامة من علامات مقهى البستان، بشرته سمراء، جسده نحيف، وليس بقصير، يلبس نظارة قديمة تبتلع نصف وجهه، يختار دائما قمصانا مخططة أشبه بالجلباب الذى كنا نرتديه فى القرية، عندما تقع عليه عيناك تعرف من أول نظرة أنه ريفى، وعندما تقترب منه وتسمعه تتأكد أنه إنسان، نقى، لا يحمل لأحد ضغينة أو كراهية أو غيرة، لا يخلو من مكر الطيبين.
«طاهر» كان يحاول نشر ديوانه الأول:«طالعين لوش النشيد»، لم يكن قد صدر بعد، وكان يتردد كثيرا على الهيئة لمتابعته طفله البكرى، وأذكر أن الديوان كان معدا للنشر ضمن سلسلة إشراقات، بعد أن يطمئن يصعد إلى القاهرة، أظن أنني سمعت منه أغلب قصائد طالعين لوش النشيد فى المجلة أو على المقهى، فقد كنت من روادها، أجلس عليها عقب انتهاء العمل، فقد كنت أيامها حرا بعيدا عن قيود الزواج، وأسكن فى شقة مفروشة بحى نصر الدين بالجيزة، وكان يسكن معى فى غرفة واحدة الشاعر الجميل أحمد الشهاوى.
«طاهر» كان يعبر عن كلماته بيديه وبملامح وجهه، والحزن الساكن فى أعماق عينيه، يميل ويثنى ظهره أو يرفع عنقه ويده ويلقى أشعاره:
تلاتين سنة.. والبحر عازب
تلاتين سنة.. والبحر يحبل بالشطوط..
والحمل كاذب
تلاتين سنة.. والبحر ما داقشي الصبا
لأن عينه قريبه م المستحيل
والناس بترمح في الوريد
طالعين لوش النشيد
قبل فترة تقابلنا بالمصادفة، اجتررنا بعض الحكايات القديمة، روحه مازالت كما هى، لم يتغير عن أيام الشباب، شاهدت فقط آثار الزمن والمرض على وجهه، ما زال الحزن يسكن فى عينيه، تواعدنا أن نلتقى ونتهاتف، مات طاهر، دخل فى صراع مع كبده، تسلح بالأمل وبأشعاره، انتهى الصراع وخسر طاهر، فقد هزمه كبده، مات طاهر وماتت معه الحكايات:
الجرح واحد.. والجاني واحد
واللي بينسى صرخته وقت الألم.. جاحد
يا صرختين من حلق واحد
القلب عنقود الغضب طاب واستوي
واللي نوى والعزم تغريد الحديد
طالع أكيد..
طالع لوش النشيد»
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف