تابعت باهتمام شديد ما نشرته الصحف عن اللقاءات والمؤتمرات التى دعا لها الأزهر، وشارك فيها مع أطراف ووفود تمثل الكنيسة المصرية والفاتيكان والشيعة
، وطرحت فيها قضايا المواطنة، ومواجهة التطرف والإرهاب، واحترام التعددية الدينية والمذهبية والفكرية، وقد اختتم المؤتمر الأخير الذى عقد منذ أسبوع بإعلان أكد فيه الحاضرون إدانتهم للإرهاب ووقوفهم إلى جانب الحرية والمواطنة والتعدد والتكامل.
هذا الموقف الذى عبر عنه الأزهر ودافع فيه عن المواطنة وحقوق الإنسان ليس جديدا تماما، وإنما هو استمرار لمبادرات سابقة، وقف فيها الدكتور أحمد الطيب ومعه بعض علماء الأزهر هذا الموقف المستنير، فإذا كان الأزهر قد عاد ليؤكد التزامه بهذا الموقف كما فعل فى اللقاءات والمؤتمرات الأخيرة، فهذا أمر يدعو للتفاؤل ويشجع على انتظار عهد جديد يؤدى فيه الأزهر رسالته فى الحفاظ على علوم الدين واللغة من ناحية وفى إحيائها من ناحية أخرى. والإحياء له معنيان: معنى سلبى، يتمثل فى محاولة إعادة الروح للنصوص التى عبرت عن حاجة أو مرحلة مضت وفقدت قيمتها بعدها فهى الآن نصوص ميتة. والمعنى الإيجابى، يتمثل فى قراءة الماضى بعيون الحاضر وإعادة صياغته بهذه الروح التى تبعث فيه الحياة وتتيح له أن يولد من جديد. ومن هنا حاجتنا الملحة لتجديد الخطاب الدينى وفتح باب الاجتهاد والرجوع إلى المبادئ والأصول التى صدرت عنها الأحكام والى المقاصد التى تدعو إليها.
المبادئ تراث الماضى المحفوظ. والمقاصد تراث المستقبل المأمول الذى لايتحقق إلا بالانفتاح على الواقع، واحترام قوانين التطور، والاستعداد لمراجعة النفس وتصحيح الأخطاء، والحوار مع الآخرين والانتفاع بتجاربهم، والالتزام الفعلى بما نصل إليه فى مراجعتنا لأنفسنا أو فى حوارنا مع غيرنا، خاصة حين نرى أن تصحيح الخطأ والالتزام بالصواب لم يعد مجرد واجب أخلاقى نؤديه لنريح ضمائرنا ثم ننصرف لشئوننا الخاصة، وإنما أصبح نفيرا عاما يدعونا للدفاع عن وجودنا الوطنى الذى صار مهددا لا من خارجه فقط بل من داخله أيضا، فالإرهاب ليس محصورا فى العصابات المسلحة التى تهاجم جنودنا وتقتل مواطنينا المسيحيين وتمثل بهم فى سيناء وفى غير سيناء، وإنما الارهاب قبل كل شىء ثقافة هدامة معادية لكل مايقوم عليه وجودنا، معادية للوحدة الوطنية، وللدولة المدنية، وللنظم الديمقراطية، ولثقافتنا الحديثة، ومعادية للعقل والعلم، ومعادية للمسيحية والإسلام الذى تزعم هذه الثقافة الهدامة أنها تمثله وتتحدث باسمه، ومن هنا يكون على الأزهر قبل غيره أن يتصدى لهذه الثقافة الكاذبة الهدامة التى لا تتبناها عصابات سيناء وحدها، وإنما تتبناها جماعات الإسلام السياسى كلها وإن اختلفت أساليبها وتعددت لأنها تملك الكثير وتستخدم الكثير. تستخدم أجهزة الإعلام، ودور العبادة، وأموال الداخل وأموال الخارج، وكما تستخدم غنى الأغنياء تستخدم فقر الفقراء، وكما تستخدم علم المتعلمين تستخدم جهل الجهلاء. وإذا كانت تغتال من يعارضونها فى مرحلة من المراحل فهى تشكل الأحزاب وتدخل الانتخابات فى مرحلة أخرى، وتحصل على أصوات الناخبين، وتصل إلى السلطة وعندئذ تقلب للناخبين وللديمقراطية وللدستور وللبرلمان ظهر المجن وتشهر أسلحتها الأخرى التى استنفرت المصريين فثاروا ثورتهم التى أسقطت سلطة الإرهابيين لكنها لم تسقط ثقافتهم الهدامة التى أفرزت قوانين» وخلقت مناخا يعادى المواطنة ويعادى حرية التفكير والتعبير، ويسمح بالخروج على أحكام الدستور وعلى قوانين الدولة كما نرى فيما يسمونه المجالس العرفية التى ترحل المسيحيين من القرى التى يسعى المتطرفون لترحيلهم منها، ولهذا يختلقون المشكلات التى تؤدى للصدام. وعندئذ تأتى المجالس العرفية لتسير فى الطريق الذى رسمه المتطرفون وتحكم بترحيل المسيحيين عملا بثقافة الإرهاب المبنية على التمييز والفصل واعتبار المسيحيين ذميين يكفيهم أن يعيشوا فى حماية المسلمين، كما يعيش الأرقاء فى حماية سادتهم، أما أن يكونوا مواطنين أحراراً مساوين للمسلمين وغير المسلمين فى الحقوق والواجبات فهذا ماتأباه ثقافة الإرهاب وتحاربه بالسلاح مرة، وبالمجالس العرفية مرة أخرى. ونحن نرى إذن أن هذه الثقافة الهدامة لاتزال شائعة مؤثرة تجد من يتبناها، ويعمل بها حتى فى بعض المؤسسات الشرعية، وذلك لأن الإرهابيين استطاعوا أن يخلطوا بين الدين والدولة وأن يقدموا أنفسهم للمتدينين البسطاء باعتبارهم مجاهدين يسعون لتطبيق الشريعة، واستعادة الخلافة، فمن حقهم أن يخرجوا على القانون، وأن يهدموا الدولة ويكفروا المعارضين الذين استطاعوا أن يسقطوا سلطة الجماعة الإرهابية، لكنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن يسقطوا ثقافتها التى لا تسقط بالمظاهرات ولا تسقط بأجهزة الأمن، وإنما تسقط بفكر مستنير نستمده من ثقافتنا ومن الثقافات الأخرى. وقد عبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر عن هذا الفكر المستنير فى اللقاءات والندوات والمؤتمرات التى أشرت إليها فى السطور الماضية.
غير أننا ونحن نتابع هذه اللقاءات ونقرأ ما صدر عنها من بيانات ونشعر معها بالتفاؤل نفاجأ بمواقف أخرى يتخذها الأزهر تشكك فيما تقوله البيانات وتتناقض مع حرية التفكير والتعبير التى لا يمكن بدونها أن ندافع عن المواطنة أو نتصدى للإرهاب وثقافته التى أصبحت لها سلطة تحتاج فى مواجهتها لشجاعة فكرية لا تقل عن شجاعة الجنود الذين يواجهون الإرهاب المسلح فى سيناء وفى غير سيناء. والسؤال الأخير، أو هو فى الحقيقة السؤال الأول: إذا كان معلوما أن المواطنة لا تتحقق إلابالفصل بين الدين والدولة، هل يكون الأزهر مع الفصل الذى يحفظ لكل منهما حقه، أم يكون مع الوصل الذى يظلم الدولة ويظلم الدين؟!