ما حدث أمس وأول أمس في شوارع مصر من غضب "الجياع" بعد تقليص حصة رغيف "العيش" الذي يتم توزيعه على الغلابة ، هو إنذار واضح وشديد الخطورة ، خاصة وأنه جاء كرد فعل عفوي وشعبي بدون أي توجيه أو تحفيز إضافي من أي قوة سياسية ، آلاف الناس الفقراء الغاضبة في الاسكندرية والجيزة وكفر الشيخ وغيرها خرجوا إلى الشوارع وقطعوا الطرق ومنعوا حركة بعض القطارات وحاصروا مسئولين في مكاتبهم ، بعد أن تعذر عليهم الحصول على "رغيف العيش" الذي يقيم أودهم ويسترهم في تلك الأيام القاحلة والكئيبة ، وقد تباينت ردود فعل الدولة في مواجهة هذا الحراك الشعبي المفاجئ والمحدود ، ويبدو أنه لم تكن هناك تعليمات محددة للتعامل ، أو أن المفاجأة أربكت صاحب القرار السياسي نفسه فتعثر في البحث عن حلول وتلكأ ، وبالتالي وجدنا الشرطة تقمع البعض في منطقة وفي منطقة أخرى تقوم بتوزيع الخبز مجانا على الساخطين وفي مناطق أخرى تخوض عمليات إقناع للحشود الغاضبة أن الأخبار السارة ستأتي خلال ساعات ، بينما طلب من وزير التموين علي مصيلحي أن يذهب إلى التليفزيون مباشرة ليخرج على الهواء محاولا تهدئة الناس ، ولكن لأنه لا يملك بوصلة ولا يملك ثقة ولا يملك غطاء سياسيا ، كان مرتبكا ، فلم يفهم الناس من أمر كلامه شيئا ، سوى وعود ، بينما هو في البداية أنكر وجود قرارات جديدة ، ثم بعد ذلك اعترف بها ودافع عنها وتحدى الغاضبين ثم هو يحاول أن يسترضيهم ويلتمس العذر بأن الدعم يذهب إلى غير مستحقيه . هؤلاء الذين خرجوا أمس وأول أمس ، وبعضهم هتف مباشرة ضد السيسي ، هم القاعدة الأساسية التي كان يرتكز عليها الرئيس عبد الفتاح السيسي لدعم نظامه والحديث عن شعبية له في الشارع بعيدا عن النخبة والطبقة الوسطى الساخطة على غياب الحريات ، فالسيسي كان رهانه دائما ، حتى في خطابه للخارج ، أن الناس في مصر مشغولة بتحسين حياتها وصحتها وتعليمها وغذائها وليست مشغولة بالديمقراطية وتداول السلطة ، اليوم يرى العالم في الخارج كما من في الداخل أن الرهان الأخير للسيسي سقط ، وها هم الفقراء الذين يبحثون عن لقمة عيش تسترهم وتبقيهم أحياء هم وأولادهم ، يخرجون إلى الشوارع ، أو يخرجهم الجوع ، ويهتفون ضد السيسي . مشكلة السيسي كرجل عسكري أنه يفكر بمنطق قديم للغاية ، أنه يمكنه أن يمضي في نهوض اقتصادي بمعزل عن إصلاح سياسي واجتماعي ، وهي فرضية انتهى منها العالم كله وسلم بأنها وهم ، إلا بعض القادة العسكريين في العالم الثالث ، فالنهوض الاقتصادي في عالم مفتوح كما هو اليوم يحتاج إلى مناخ سياسي صحي ، شفافية ، منظومة رقابية مستقلة وجادة ، قوانين أكثر عدلا وتعبر عن مصالح عامة وليس عن مصالح شخصية أو حزبية ، ثبات تشريعي ، ثقة في مؤسسات الدولة واستقلاليتها وشرعيتها ، توافق شعبي ووطني يضمن الاستقرار ويحقق الأمان ويبعد الإحساس بالخطر أو المخاطرة ، رضا نفسي للإنسان في هذا الوطن أو ذاك يشعره بأنه يملك هذا الوطن ويصنع مستقبله وليس مجرد شيء مستباح بما يحقق له دافعا للإنجاز والعطاء والتفاني والولاء الكامل والحرص على حماية المال العام والممتلكات العامة بكل تفاصيلها ، نظام سياسي يضمن تداولا سلميا للسلطة بما يجعل أي حاكم تحت ضغط المراجعة الشعبية المستمرة والحرص على تجنب الأخطاء والخوف من تعقب فساده إن أفسد وفشله إن فشل ، كل تلك المنظومة هي التي تصنع مناخا صحيا لنمو الاقتصاد وتصحيح المسار والنهوض المستدام على كل الأصعدة ، بينما غياب هذا المناخ ينشر القلق والخوف وغياب الثقة وضعف الولاء واستباحة المال العام وانتشار الفساد على نطاق واسع والتخريب المنهجي المقصود وغير المقصود ، لأن السلطة المستبدة تحتاج إلى الولاء وليس الكفاءة ، المنافق وليس المخلص ، وهو ما يجعل اقتصاد الوطن أشبه بالجيب المثقوب كلما وضعت فيه المال تسرب إلى المجهول . ما حدث ويحدث في مصر أنهى عمليا أسطورة أن القائد ذا الخلفية العسكرية هو الأفضل لحكم مصر وهو الأقدر على الإنجاز ، وأن مصر بحاجة إلى الرئيس "الدكر" ، الصورة أصبحت واضحة ، والماء كذب الغطاس ، وها هي مظاهرات الغلابة تتفجر تدريجيا ضد الرئيس "الدكر" ، والقائد ذي الخلفية العسكرية ، لتؤكد على أن مصر بحاجة إلى أشياء أخرى مختلفة تماما ، وهي أشياء كانت في سبيلها إلى التبلور والنهوض بالوطن بعد ثورة يناير ، لولا أن قطعوا الطريق عليها ، بالفهلوة وصنعة اللطافة والخداع والوعود المزيفة التي لم تصمد طويلا وبروباجاندا الأغاني والرقص والتهريج .