على هاشم
نواب الفضائيات .. يجعلونها برلماناً موازياً؟!
مع أنه من السابق لأوانه الحكم علي أداء البرلمان . فما بقي في عمره أطول كثيرًا مما انقضي ولا يزال هناك متسع لإنجاز الكثير والكثير فإن ثمة ملاحظات ومآخذ لا تخطئها عين ولا ينبغي أن تثير حفيظة البعض فألف باء الديمقراطية هو رقابة البرلمان علي الحكومة ورقابة الشعب والإعلام علي البرلمان وقد تراءي لي ولغيري أن العقل السياسي يكاد يغيب عن أداء البرلمان حين يضيق صدره بالنقد حتي ولو كان مقبولاً وموضوعيًا . وقد تجلي ذلك في مواقف عديدة لعل أقربها الانشغال بقضايا تبدو هامشية إذا ما قورنت بقضايا مصيرية تخص الشأن العام وقضايا الوطن الكبري ومعاركه الحاسمة مع الإرهاب والأمية والجهل والديون والاكتفاء الذاتي من الغذاء والدواء وحصول المواطن علي احتياجاته الضرورية من تعليم ورعاية صحية وعمل مناسب وسلع بأسعار تناسب دخله وعدم تركه رهينة في أيدي تجار الجشع والاحتكار والمغالاة ..لكن أن يتخذ المجلس في إحدي جلساته العامة قرارا بتقديم بلاغ ضد أحد الصحفيين مهما يكن نقده فهو ما لم يكن موفقًا وكان الأولي بالبرلمان أن يرفع أمر محاسبة هذا الصحفيين أو غيره من المتجاوزين لحدود النقد إلي نقابته تحاسبه بطريق قانونية. فإن لم يكن جزاؤها رادعًا شافياً لما في الصدور كان للبرلمان أن يلجأ ـ كما فعل ـ للقضاء وهو الأمر الذي نرجو أن يتداركه د.عبدالعال بسحب البلاغ إياه من النيابة وإعادة الأمر لنقابة الصحفيين المسئولة قانونًا عن محاسبة أعضائها وتأديبها إذا لزم الأمر.
تكرار ظاهرة غياب النواب عن حضور جلسات المجلس الذي شكا منه رئيسه مرارا وتكرارا هو أمر قديم متجدد وهو ان دل علي شيء فإنما يدل علي تراجع اهتمام النواب الغائبين عن الجلسات بأمر الشعب الذي اختارهم لتمثيله تحت القبة . وإدارة شئونه والسهر علي حقوقه وشتي أموره وفي مقابل هذا الغياب تواجهنا ظاهرة مناقضة تمامًا لذلك وهي الحضور الإعلامي لبعض النواب عبر الشاشات وصفحات الصحف والمواقع الالكترونية وهو الأمر الذي ربما يرجع إلي حداثة عضوية كثير من النواب الذين لم يسبق لهم تمثيل دوائرهم تحت القبة . ومن ثم فهم يتسابقون للظهور التليفزيوني مساءً لمغازلة أهالي دوائرهم الذين يفتقدون حضورهم في جلسات البرلمان نتيجة غيابهم عنها أوعدم إذاعتها تليفزيونيا في مسعي لإثبات وجودهم وجدارتهم البرلمانية بصرف النظر عن كفاءتهم في استخدام أدواتهم الدستورية وما يبدونه من ملاحظات وطروحات واقتراحات أو انتقادات ومعالجات للمشكلات الجوهرية التي تمس حياة الشعب عامة واحتياجاته الضرورية أو احتياجات أهالي دوائرهم علي وجه الخصوص .
لست أصادر علي النواب حقهم في التعبير عن آرائهم عبر وسائل الإعلام المختلفة أو حتي عبر مواقع التواصل الاجتماعي لكن هذا لا بد أن يظل خيارًا ثانويًا بعد استنفاد جهودهم وطاقاتهم تحت القبة في الجلسات العامة أو اللجان البرلمانية ثم يعرضون بعدها ما بدا لهم في وسائل الإعلام حتي لا تصبح الأخيرة برلمانًا موازيًا يزاحم البرلمان علي دوره ووظيفته وتتحول إلي ساحة تعج بألوان من الخروج علي المبادئ والتقاليد البرلمانية المستقرة في العالم كله وحتي لا نجد أنفسنا أمام واقع جديد مشوش تتحول فيه الفضائيات وبرامجها الحوارية إلي فناء خلفي للجدل البرلماني والنفاق الممجوج للجماهير وإثارة الخلافات والتجاذبات أو تصفية الحسابات وخلق مجالات للشحن والإثارة أو التحريض وبث الفرقة . واستعراض القوة واكتساب الشهرة وجذب أنظار المشاهدين وتحقيق الشو الإعلامي .. وهذه ليست من معايير النجاح الحقيقي أبدا للبرلماني القدير بل يظل أي إنجاز حقيقي للمجلس ونوابه رهنًا بإنكار الذات والإخلاص في حل المشكلات والتجرد من كل نوازع الشهرة وكسب الأصوات وتحقيق المنافع الشخصية . لتحقيق المعني الأسمي للتمثيل البرلماني ولتصبح قاعات المجلس ولجانه ساحة لخلق تنافس حقيقي لإنجاز مصالح الناس وإعلاء الصالح العام علي ما سواه في وفاق وطني وتجانس وتعاون يلمس الناس آثاره في حياتهم اليومية فتخف معاناتهم وتتيسر أسباب معيشتهم وتتحقق طموحاتهم وآمالهم في حياة كريمة لا يشوبها قلق ولا معاناة.
البرلمان في كل الدنيا ساحة تمور بالنقاشات الجادة والساخنة . والرقابة والمساءلة للحكومات . وكشف المسكوت عنه للرأي العام الذي يتابع بشغف ما يجري من سجالات ومناقشات حامية قد تصل أحيانًا لحد التشابك بالأيدي. ومساءلة لكبار المسئولين وصغارهم علي السواء وهنا تتحقق الديمقراطية في أبهي صورها . وتتجلي الشفافية في أوضح معانيها وليس السائل بأكثر وطنية من المسئول . ولا يذهب أحد إلي التشكيك في وطنية أحد ولا مزايدة عليها فالاختلاف ليس علي الوطن بل علي طريقة خدمة هذا الوطن .. ومن ثم يصبح البرلمان وسيلة لتحقيق الأمان والرقابة الشعبية والانحياز للسواد الأعظم وكبح جماح الفئات وأصحاب المصالح الخاصة وهنا لا مجال للشو الإعلامي ولا الفردية بل تفرض الأحزاب القوية كلمتها. وتجعل للتنافس السياسي معني نفتقده في برلماننا» نظرًا لغياب الأحزاب القوية صاحبة الجماهيرية والوزن والتأثير السياسي في الشارع ومن ثم يصبح السؤال : متي تتعافي أحزابنا وتتقدم البرامج الانتخابية علي الأشخاص والعصبيات.. متي تتراجع ظاهرة الشو الإعلامي الذي يحرص عليه بعض النواب.. متي يكف هؤلاء عن التسابق للظهور في الفضائيات بينما يغيبون عن أداء دورهم تحت القبة.. هل يجد هؤلاء النواب الراغبون في الظهور الإعلامي مساحة حرية أكبر مما يجدونه تحت القبة أم أنها الرغبة المحمومة في كسب الشهرة والصيت واستعراض القدرة علي إثارة الجدل ولماذا لا يفعلون ذلك داخل المجلس لتسجله مضابطه الرسمية وتسمعه الحكومة وينال حظه من النقاش والرد. ثم تلتزم الحكومة بتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه من إجراءات سياسات وهنا يحضرني سؤال: أيهما كان أفضل للنائب السابق محمد أنور السادات: أن يثير موضوع شراء سيارات للمجلس تحت القبة أم يلجأ للفضائيات كما فعل ..؟!
نواب الفضائيات ـ ان صح التعبير ـ كانوا ظاهرة أيام الإخوان ولا يزالون يخصمون من رصيد البرلمان في الشارع وربما يتقاطع ظهورهم الإعلامي الزائد مع دور المجلس رغم أن الأصل في عمل البرلمان هو العلانية التي لا تقتصر فقط علي إذاعة الجلسات تليفزيونيًا فتلك أحد أشكال العلانية وبقدر ما للبث التليفزيوني لجلسات البرلمان من مزايا بقدر ما له من مثالب وعيوب.. فعندما أذيعت جلسات البرلمان في بداية عمله كادت حمي البداية تفسد عمل المجلس وتعرضه لمخاطر المزايدات والصراعات والمعارك اللفظية المفتعلة» فبعض النواب اندفع دون قصد بمشاعر غاضبة أمام عدسات الكاميرات لينخرط في سجالات واشتباكات انحرفت أحيانا بالبرلمان عن هدفه الحقيقي بإدارة حوار ونقاش موضوعي هاديء حول شتي القضايا واتخاذ القرارات الموضوعية الهادفة لتحقيق صالح الوطن وقد رأينا وقائع برلمانية لو استمرت ما وصل البرلمان إلي بر الأمان كما أن لإذاعة الجلسات فوائد عديدة فهي تمكن الرأي العام والشعب من مراقبة أداء نوابه ومعرفة مدي حرصهم علي تحقيق طموحاته وأهدافه وإشباع احتياجاته والدفاع عن قضاياه وحقوقه كما أنها تعد فرصة لإطلاع المواطنين علي مجريات الأمور في وطنهم فيزداد وعيهم السياسي وحرصهم علي المشاركة العامة وممارسة حقوقهم وواجباتهم الدستورية ناهيك عن إتاحة الفرصة لممارسة النقد الذاتي وتقييم أداء النواب ومعرفة مدي التزامهم بما قطعوه علي أنفسهم من عهود ووعود وتغليبهم الصالح العام علي مصالحهم الشخصية.
الحكم الموضوعي علي أداء البرلمان ككل لم تتوفر أسبابه وسياقاته الكاملة بعد فلم تنقض سوي مدة قصيرة لا تكفي للحكم عليه فضلاً علي قلة الخبرة السياسية لدي كثير من أعضائه والرغبة المحمومة لدي بعضهم في كسب رضا الشارع ولو علي حساب اللائحة وهو ما يقابله سقف عال من طموحات الناس ناهيك عن زلات البعض وسقطاته وخروجه علي تقاليد وسوابق برلمانية عريقة والإغراق في الماضي أكثر من النظر للمستقبل والاشتباك مع تحدياته وهي كثيرة بالعلم والعمل الجاد لوضع حلول لمشكلات جذرية مستفحلة لكن ما يحدث أنه تتم إحالة كثير منها للجان النوعية دون تحديد جدول أو خريطة زمنية لحلها والاكتفاء بتأجيلها أو الالتفاف عليه حتي بات واضحًا للعيان أن هؤلاء النواب راغبون في الكلام أكثر من رغبتهم في العمل وبذل الجهد والإنجاز وهو ما ينفيه أعضاء البرلمان الحالي رغم أن الناس لا يرضيهم مجرد قناعة تشكلت لدي النواب عن أنفسهم بل يرضيهم ما يصل إلي بطونهم وحياتهم اليومية ويجدونه واقعًا في تشريعات وقوانين تذلل الصعوبات وتحل المشكلات وتنقل الوطن نقلة نوعية وتحقق نهضة حقيقية وتقدما ملموسا فيجدون غذاء صحيا آمنا وعلاجا في المتناول وخدمة تعليمية منتجة ومناطق بلا عشوائيات ومرورا بلا زحام ولا أزمات ومستقبلاً واضح المعالم بلا غموض ولا تخوفات.
الناس في حاجة لأن تري أداء برلمانهم عبر جلسات مذاعة تليفزيونيًا ليتمكنوا من الحكم عليه ومنحه الثقة أو إعادة النظر فيمن يمثلهم تحت القبة.