المساء
محمد جبريل
ع البحري .. من مشهد العمر
المثل يقول: "السجن سجن ولو في جنينة" المعني عبقري. فالعزلة قرار فردي. اختيار شخصي. إن جاوز المعني. وصار قيداً يلزمنا البقاء في المكان. فهو إذن سجن تشقينا الحياة فيه. ونتمني هجره.
الحياة في الكتب متعة وفائدة. تصادقك بالمعارف الإنسانية. وبالشخصيات التي صاغت أحداث التاريخ.. وهو ما لا يتحقق بالإلزام. بتحديد الإقامة بين الجدران. أحببنا القراءة الحرة قدر عزوفنا عن القراءة المدرسية. القراءة الحرة ـ رغم أنها بالنسبة لي في الأقل ـ جاوزت السهولة والتبسيط إلي قضايا تاريخية سياسية وفلسفية مهمة.. قد تبين صعوبتها في القراءة الأولي. لكن الأبواب ـ في القراءات التالية ـ تنفتح عن المعاني المضمرة.
حريتي في لزوم البيت هي اختياري. وقت أقضية في القراءة والتأمل والكتابة.. من الصعب أن يتحقق ذلك الوقت بالقهر. بفقدان حرية الحركة. حتي لو لم أكن أريدها في هذه الأوقات.. ما أريده. ما أحبه. ما أتمني حدوثه. يجب ألا يتحقق بغير إرادتي. لا يملي عليّ.. أعود من تأملي للكتب علي الأرفف.. أخشي لو أني أطلت النظر فسيشملني الضيق من كل ما حولي. الكلام والحرية والتأمل والتفكير والإبداع. ذلك كله يرفض القيد. حتي لو اختار المرء فعلاً مغايراً. لو أنه اختار الصمت. أو السهر. أو المشي. فذلك قراره الشخصي.
القهر لا يصنع حرية
قيمة الحياة في الحرية. اتساعها. وتعدد مجالاتها إلي حد اللامكان.. نفسي مفعمة بالحب والود والامتنان لمن أضافوا ـ في حياتي ـ التجدد والأمل الجميل: صاحب دكان يمنح طفولتنا مليماً. وأيدينا تهتز بفوانيس رمضان. وأصواتنا تعلو بالغناء: الدكان ده كله عمار.. وصاحبه ربنا يغنيه. موائد الرحمن ـ في شهر الصوم ـ للفقراء وعابري السبيل. تبادل التهنئة ـ دون سابق معرفة ـ بقدوم العيد. سيدة ـ في عمر أمي ـ تومئ برأسها إلي قفة تحت قدميها: ساعدني يا ابني.. مذاق القبلة الأولي لفتاة في ظلمة سينما الأنفوشي.. جندي أكتوبر يلقي جسده علي الأسلاك. يتيح لزملائه العبور من فوقه إلي الأمام.. صياد سنارة يعطي طعماً لجار الوقفة فوق صخرة الكورنيش. فيواصل طلب الرزق.. الوقفات الضارعة أمام مقام الولي. تطلب الشفاعة والنُـصْـفَة والمدد. الإنصات إلي عظات الشيخ في نصف الدائرة أمام دكة المبلغ.. المذاكرة في صحن المرسي. سلطان الإسكندرية.. تعبيرات بروتوكول العطسة: الحمد للَّه. يرحمكم اللَّه. يرحمنا ويرحمكم اللَّه.. الصداقة المتولدة من لقاء عابر في القطار.. بائع يلحظ ارتباكي وأنا أفتش عن قيمة ما اشتريته: بعدين. الدنيا بخير. يد تساعدني علي ركوب الباص.. الإحساس بالانتماء أوقات الفرحة والخطر.. اللَّمة حول عربة فول علي ناصية شارع جانبي.. أسرة تحيا. وتسعي إلي لقمة العيش. في قارب علي ساحل المالح. العودة بصينية "المياس" المغطاة بشرائح البطاطس من فرن التمرازية.. يد عم حجازي بائع الكتب الممدودة بكتاب مهترئ الأوراق: هذا هو الكتاب الذي كنت تبحث عنه.. دمعة عين عابر سبيل لرؤية مريض يعاني.. اللهفة في حمل نعش الميت لكسب الثواب.. المصاحف والمساجد والزوايا والأسبلة ومواد الطعام. ومقابر الصدقة. وغيرها من الصدقات الجارية.. استغراقي في مأساة صبي الأيام الضرير بعد أن سكب العدس علي صدره. سباق البنز والقوارب في المينا الشرقية.. الجلوات والموالد وسوق العيد.. عبارات المؤانسة والصداقة والتعاطف والإشفاق.. انطلاق السيارة في السكة الزراعية. الخضرة علي الجانبين. وفي الآفاق تتناثر أبنية ومأذن وأبراج حمام وسواقي.. التحليق في أجواء علوية يصحبني إليها صوت فايزة أحمد.. زحام شارع الميدان. حلقة الذكر في ساحة الموازيني.. أمواج المتظاهرين المتشابكة الأيدي. تعلو بالنشيد ـ في اختراقها شوارع بحري ـ بلادي بلادي.. فداك دمي.. ترامي الإنشاد والتسابيح والابتهالات والأدعية من أبوالعباس. رفع الأذان من مئذنة علي تمراز.. مغالبة البرد في السعي إلي صلاة الفجر جماعة.. المشاركة في موالد أولياء الله: البدوي والدسوقي. ومار جرجس. والشاذلي والمعصراني. وأبو سيفين. وسانت تريز. وأبوالعباس. والبوصيري.. صعودي درجات قصر عائشة فهمي. تأخذني اللهفة اليومية. المتجددة لزيارة نجيب محفوظ. يلمح وقفتي علي الباب. فيبطن صوته بالود: جيت؟!!
ليس كل ما عشته جميلاً. لكن الذهن يسدل غلالات علي ما أحزن النفس. يبقي من الماضي. من مشهد العمر. ما يطمئن إليه الوجدان. ويحرص علي اجتراره.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف