حذَّرنا القرآن الكريم من حالة "الذهول" التي تنتاب البشر جميعا يوم القيامة، ولا يُستثنى منها أحد، وهو ذهول الوالد عن ولده، وذهول الولد عن والديه، فلا يهتم المرء إلا بنفسه، ولا يعصمه من النار إلا تقواه، ولا ينجو إلا بإخلاص الوجه لله.
لا والد يفيد، في ذلك اليوم الطويل، ولا مولود ينفع. وكما قال وهب بن منبه: "كلٌ يُهمه همُّه, ويبكي عولَه, ولا يحمل وزرَه معه غيرُه".
لقد نصَّ على ذلك قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ".(لقمان: 33).
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ": أنت بالتأكيد منهم. والخطاب هنا للمسلم والكافر، وهو طريق السعادة للجميع في الآخرة.
"اتَّقُوا رَبَّكُمْ": التقوى أنْ تجعل وقاية، بينك وبين ما يضرك، تقيك، وتحميك.
فَرَّق العلماء هنا بين: "اتقوا ربكم" و"اتقوا الله"؛ فقالوا إن "عطاء الربوبية" إيجاد من عَدَم، وإمداد من عُدْم، وتربية للمؤمن وللكافر.
أما "عطاء الألوهية" فطاعة، وعبادة، وتنفيذ للأوامر. فاختار تعالى هنا "ربكم" الذي خلق وربَّى، كأنه سبحانه يقول للناس جميعاً: "من الواجب عليكم أن تجعلوا تقوى الله شكراً لنعمته عليكم".
"إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ": هذا الوعد هو يوم القيامة، الذي يذكره الصالحون فيبكون، ويذكره المذنبون فيبكون أيضا.
والوعد: إخبار بشيء يَسرَّ لم يَأْت وقته. وضده الوعيد، وهو إخبار بشيء يؤذي، ولم يأْتِ وقته بعد.
وفائدة "الوعد" أنْ تستعدَّ له، وتأخذ في أسبابه، وعلى العكس من ذلك: الوعيد؛ لأنه يُخوِّفك من عاقبته فتحترس، وتأخذ بأسباب النجاة منه.
"وَاخْشَوْا يَوْمًا": أي: خافوا يوماً تُرجعون فيه إلى ربكم، لأن اليوم نفسه مخيف، بصرف النظر عن الجزاء فيه، وفق كتب التفسير.
يُذكر أن "ضيغم بن مالك" بكى ليلة، من أول الليل إلى آخره، لم يسجد فيها سجدة، ولم يركع فيها ركعة، فلما سُئل عن ذلك بكى، وقال: "لو يعلم الخلائق ما يستقبلون غدا ما لذُّوا بعيش أبدا.. والله إني لما رأيت الليل وهوله وشدة سواده ذكرت به الموقف، وشدة الأمر هناك، وكل امرئ يومئذ تهمه نفسه. "لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً". قال: ثم شهق، ولم يزل يضطرب ما شاء الله".
"لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِه"، أي: "لا يحمل والد ذنب ولده، ولا مولود يحمل ذنب والده، ولا يؤاخذ أحدهما عن الآخر".
وبحسب تفسير "ابن كثير": "لو أراد أن يفديه بنفسه لما قُبل منه، وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يُقبل منه".
وبدأ الله، تعالى، بالوالد لأنه مظنّة الحنان على الولد، وحين يرى ولده يُعذَّب، يحب أنْ يفديه، لذا قدَّمه هنا.
ثم قال: "وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً"، فقدَّم المولود، وكان مقتضى الكلام أنْ يُقال: "لا يجزي ولد عن وَالِدِهِ"، لكن هناك فرْق كبير بين وَلَد ومولود؛ فالمولود هو المباشر للوالد، أما الولد فيُقال للجد، وإنْ علا فهو ولده.
فإذا كانت الشفاعة لا تُقبل من المولود لوالده المباشر له، فهي من باب أَوْلَى لا تُقبل للجدِّ؛ لذلك عَدل عن ولد إلى مولود.
ونكَّر "شَيْئًا" بما يعني "أي شيء، ولو دقَّ"، إذ النكرة في سياق النفي تفيد العموم.
"فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا".. سمَّاها "دنيا"، وليس هناك وصف أبلغ في تحقيرها من أنها "دنيا"، تزدهي، ثم سُرعان ما تزول.
والمعنى: "لا تلهينكم، عن الدار الآخرة، الدنيا، بزينتها وزُخْرفها والطمأنينة فيها، فهي سراب خادع".
"وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ".. أي: "َلَا يَخْدَعَنَّكُمْ بِاللَّهِ خَادِع".. و"الغَرور"، بفتح الغَين، الذي يغرُّك، شيطان، أو إنسان، أو دنيا، في شيء ما. أما "الْغُرُور" بضم الغَين: فهو مصدر من قولهم: "غَرَرْته غُرُورًا".
والأمر هكذا، كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لا يفتر عن ذكر يوم اللقاء، حتى إنه كان يخطب في الناس، فيقول: "لكفى عمرَ انتظارُ الحساب". وكان يحاسب نفسه فيقول: "ماذا تقول لربك غدا إذا أتيتَه؟".