د. حسام عقل
محمد الغزالي في ذكراه : البطولة التي رحلت ..!
كلما رأيت داعية ديكوريا ً أجوف ، ينبطح أمام قيادة سياسية دون منطق أو كرامة ، تذكرت الراحل الكبير ( محمد الغزالي ) ( 1917 _ 1996) الذي كان زئيره في مواجهة الطواغيت ينفذ في قلوبنا و يستوطن منا صميم الوجدان . و كلما رأيت عقلا ً فقهيا ً ضحلا ً يصفع الناس بقياس فقهي هش ، فيقيس مشكوكا ً فيه على مشكوك فيه ، أو يقيس غموضا ً على غموض فيخرج بفتاوي عجيبة تثير السخرية او الشفقة ، تذكرت الغزالي بأقيسته الفقهية المتوردة العميقة ، التي تستجيب للنص و الواقع بصورة أنيقة راقية . و كلما رأيت وجها ً دعويا ً كالحا ً ، يكشر في الوجوه و يمضي في طريق الحظر و التشديد _ وحده _ كأنما يعيش زمانا ً غير زماننا ، و كأنما يحبس النص بين دوائر التحريم وحدها ، دون ( رخصة من ثقة ) _ كما يقول ( سفيان الثوري ) _ تذكرت الغزالي و هو يشع عمقا ً ووسطية و بسمة بشوشا ً تأسر القلوب . و كلما سمعت داعية محدود الثقافة و الفهم ، يستميل شريحة من الناس بتسطيحات شديدة الضحالة ، و يثير جزئيات صغيرة في إغفال تام لمقاصد الشريعة الكلية ، تذكرت الغزالي الذي كان يتحدث فينفتح في وعي المستمع ، عشرون كتابا ً دفعة واحدة في الفقه و التاريخ و علم النفس و الإعلام و السياسة و الاقتصاد . و كلما سمعت عالما ً يتعثر في النطق و الخطأ اللغوي الساذج الذي يستهين بقواعد النحو و الصرف و رصانة التكوين العربي للجملة و العبارة ، تذكرت فصاحة الغزالي ، التي كانت تتخايل بالحروف و تعتز بمخارج النطق و تصنع من الجمل العربية سلاسل من ذهب . و كلما رأيت الخوف ، المثير للرثاء ، يسكن وجوه بعض الدعاة و هم يمارسون إكروبات بهلوانية ، لإنقاذ الحكام من الإدانة الشعبية بأي ثمن ، بفتح ماكينة التبرير الشرعي _ دون توقف ! _ لمنح العصمة للقيادات السياسية وحدها ، و نقل الشجب و المسئولية عن الفشل السياسي و الاقتصادي إلى الشعب فقط باعتباره ( مجرما ً أوحد ) تذكرت الغزالي و هو يشد قامته باعتزاز ، و يخاطب الجميع بثقة ، و يصب شواظا ً من نار على أنظمة الحكم الشمولي ، دون أن يكون وراءه حارس شخصي ، أو ( بودي جارد ) يصد عنه أية اعتداءات ! و كلما سمعت داعية يحرق بخوراً للعلية و الكبار ، أو يباشر خطابا ً تحريضيا ً مجرما ً لاستباحة المعارضين و الخصوم ، و تكميم الأفواه و فتح الطريق أمام الحكام للتسلط و القسوة الجاهلة في البطش بالجميع ، تذكرت الغزالي و هو يثمن الدماء غاليا ً و يعتد بالإنسان ، حرية و كرامة . و أعجب كيف لمن مضى يقول للناس : " ..طوبى لمن قتلهم و قتلوه .." مسقطا ً النص على قياس فاسد ، فيفتح بابا ً داميا ً للاستباحة و التصفية الجسدية لم تعرفه مصر يوما ً ، أعجب كيف يستطيع النوم حتى الآن ، أو دخول الإستوديوهات مرة أخرى بعد ان تسبب _ بالفتاوى المهلهلة الموتورة الموجهة ب " الريموت كنترول " _ في شلال من الدماء الزاكية لشباب في عمر الزهور ، فأغرى الحاكم و المحكوم بمخاطرة دموية آثمة ، بددت السلم الأهلي و فتحت قنوات اللهيب و الموت على مصرو كان بمقدورنا بشيء من السماحة الأبوية و الفهم و العلم الصحيح و المسئولية منذ البداية تجنب الخوض في هذه البركة الدامية ! أثارت جماهيريته _ و مازالت ! _ أحقاد الصغار و هم يرون قامة عملاقة ، ممتلئة علما ً ، تتصدر المشهد دوما ً و لا تنتظر من حاكم متعجرف أو رأسمالي متسلط ، عطية و لا منا ً و لا سلوى ! قدم الغزالي للمكتبة الإسلامية ما يقارب خمسة و خمسين كتابا ً ، لم تترك موضوعا ً مهماً أو قضية مركزية لم تقتحمها بالنقل الصحيح و العقل الراقي . و بدأ معركته عام 1949 بكتابه القيم : " الإسلام و الاستبداد السياسي " يوم ركن ليبراليون كبار إلى الظلم و مضوا في طريق الوثنية السياسية الرديئة ، و واصل معركته بكتاب : " الإسلام و المناهج الاشتراكية " فأطلق القذائف القوية في وجه الإقطاع و رأس المال الفاجر يوم ركن يساريون كبار إلى دغدغة غرائز الرأي العام بالشعارات و الخطب العصماء المعزولة عن الواقع فيما يرتمون فعليا ً في حضن رأس المال و يفتحون أشداقهم الجائعة لفتات مائدته و بقايا طعامه ! تعرض الغزالي _ عبر تاريخه الناضر _ للحملة الإعلامية تلو الحملة ، و للهجوم التشهيري تلو الهجوم ، في مصر و الجزائر و قطر و السعودية ، من خندق الفكر اللاديني المتطرف ، أو من خندق الفكر النصوصي المستغلق دون فهم الواقع ، فلم تزده الحملات الضارية إلا صلابة ، و لم تزده الهجمات الموتورة إلا إصرارا ً على مواصلة طريق صعب ، باهظ الكلفة و الثمن ، لم يطرقه إلا قلة نادرة ، تعرف جيدا ً ثمن المواجهة ! كان ألسنة الحقد الأسود تقترب من عمامته ، من قبل اللادينيين و النصوصيين الحرفيين على السواء ، فلم يتراجع للوراء بوصة واحدة ، و قد رأيت داعية سلفيا ً شهيرا ً منذ أربعة اعوام ، يشن هجوما ً ضاريا ً على الغزالي باعتباره " ضعيف العلم لا يتحقق من النص .. ! " و رددت على الداعية ضمنا ً في إحدى الحصص الإعلامية ، و بدأت أتحفظ _ منذ هذه اللحظة _ بإزاء خطابه الدعوي المضلل ، المسكون بالأحقاد ! و بشيء من حركة الخيال الفانتازي ، كنت أسأل نفسي : ماذا لو كان الغزالي حيا ً بين أظهرنا بعد 25 يناير ، هل كان المسار الثوري سيرتبك كل هذا الارتباك و يتشتت في الأودية بهذا الترنح ، أم كان سيعرف ( رأسا ً مخططا ً رصينا ً ) يضع أقدامنا على طريق التعافي الديمقراطي الذي يصنع عقدا ً اجتماعيا ً لكل الأطياف بلا استثناء ، و يفضي بنا إلى العدالة الاجتماعية التي تصل بالرغيف إلى كل قرية و نجع ؟! أتذكر له آخر خطبة عيد سمعتها ، و هو يهز أعواد المنابر بقوة برغم عدم مواتاة الصحة و سنوات العمر العجوز ، و كأني به هو الشاب المتمرد القوي الذي قاد تمردا ً ضد إدارة معتقل ( الطور ) ، قبل عقود حين قادته مواقفه السياسية و الفكرية إلى ظلام السجون يوماً ! كان له بكل كتاب معركة و بكل خطوة فتح فكري جديد في مساحة بكر لم يخطر فيها غيره . و حين انفتحت جيوب التزمت لم يتراجع طلبا ً لشهرة زائفة أو جماهيرية فارغة ، أو طلبا ً للسلامة بل مضى يواجه اتجاها ً فكرياً له قدر من المساندة الشعبية الكبيرة ، فوضع كتابه : " السنة النبوية بين أهل الفقه و الحديث " ، و هو الكتاب الذي جاوز أربع عشرة طبعة ، و توالت الردود عليه ، بعلم أحيانا ً و بتوقح أجوف في كثير من الأحيان . و كان مشهد الرحيل في مهرجان " الجنادرية " بالسعودية مهيبا ً دراميا ً ، مجللا ً بالأناقة و الكرامة . ما أسرع ما تمضي الأيام ، عشرون عاما ً على رحيله ، و ما زال موقعه شاغرا ً لا يسده أحد ، و ما زال ترجيع صوته و أصداؤه المهيبة تملأ أسماعنا ، و ما زالت خيوط الحزن النافذ لرحيله تمتد في الوجدان ، كأنما رحل بالأمس القريب ، رحمه الله قدر ما بذل من جهد ، و كفاء ما قدم من عطاء .