خالد عكاشة
أخطر3محطات في ملف الجماعات المسلحة بسيناء
أولى المحطات الزمنية المهمة المراد العودة إليها، والتى واجهتها قبائل سيناء كانت فى الفترة التى أعقبت أحداث ثورة يناير 2011م، فهى قد وجدت أن هناك ترتيبًا يتم عبر جهات عدة إلى دفع أعداد كبيرة من الإرهابيين القادمين من خارج البلاد لتجميعهم بمنطقة شمال سيناء، استغلالًا لحالة الفراغ الأمنى، الذى سادت تلك المنطقة بعد أحداث الثورة، خاصة أن فى هذا التاريخ لم تكن هناك قوات من الجيش المصرى متواجدة فى تلك المناطق القريبة من الشريط الحدودى الشرقى. هذا الوضع كان بسبب قيود معاهدة كامب ديفيد الخاصة بالمنطقة (ج)، وهى المنطقة التى دارت فيها وما زالت حتى الآن مسرحًا لكل الأحداث المشار إليها، وهى بالأسماء المعروفة تقع شرق «مدينة العريش» العاصمة حتى الوصول إلى الشريط الحدودى الشرقى بجوار «مدينة رفح»، وتضم داخلها «مدينة الشيخ زويد»، هذه المحطة الزمنية لم تملك قبائل سيناء رؤية كيفية ممارسة الفعل أمام هذا الترتيب، خاصة مع الامتداد الزمنى لتلك المحطة ليشمل طوال الفترة الانتقالية التى أعقبت ثورة يناير، ما فاقم الأمر وعقد الموقف أمام قبائل وأهالى سيناء أن هذا المشهد قد تطور مع وصول جماعة الإخوان للحكم، وتولى محمد مرسى منصب رئاسة الجمهورية، فقد عاشت الجماعات المسلحة هناك فترتها الذهبية فى الفترة ما بين يونيو 2012م حتى اندلاع ثورة 30 يونيو 2013م، وهى الفترة التى استطاعت خلالها من تكوين العديد من التنظيمات القوية عددًا وتسليحًا، تحت حماية ودعم تنظيم الإخوان من داخل مصر وفرعها القريب من الأحداث (تنظيم حماس) من الجانب الآخر بقطاع غزة.
لاشك أن هذه المحطة الزمنية التى طالت بأكثر مما كان متوقعًا، قد شكلت أوضاعًا معقدة لقبائل وأهالى سيناء، وهى الفترة أيضًا التى شهدت نشاطًا مكثفًا من تلك التنظيمات لضم أعداد ليست بالقليلة من أبناء تلك القبائل وتنصيبهم فى مواقع قيادية كما أسلفنا، لم يكن مهمًا للتنظيمات الإرهابية أن يقوم أبناء سيناء بارتكاب أعمال إرهابية بشكل مباشر بقدر ما كان مهمًا جدًا أن يمارسوا أدوارًا ومهام لوجيستية لتلك التنظيمات، مثل تأمين تحركات وإقامة العناصر الإرهابية ونقل وإخفاء الأسلحة التى بدأت تتدفق على سيناء بدرجة غير مسبوقة، والأخطر هو إدارة عمل الأنفاق غير الشرعية الممتدة من سيناء إلى قطاع غزة، هذا النشاط الأخير كان قد شهد رواجًا كبيرًا، واتسع مجاله بصورة غير مسبوقة فى نفس تلك المحطة الزمنية المشار إليها، وهو ما ساهم فى تفاقم مشاكل قبائل سيناء وطرح وقتها وما زال يطرح نفس السؤال المتكرر، عن ربط العديد ممن ينتمون إلى القبائل بمصالح مهمة للتنظيمات المسلحة، مع استفادة مالية كبيرة لأبناء القبائل من المساهمة فى تلك الأعمال، وقد شكلت تلك النقطة تعقيدًا كبيرًا للمشهد الأمنى فى سيناء وما زال يشكل تعقيدًا مركبًا لا أدرى هل وضعت القبائل هناك تصورًا ما لمواجهة مثل هذا الاشتباك، ما بين العديد من أبنائها، وبين عناصر التنظيم المسلح. وأيضا للأمر ارتباط وثيق بالجانب الآخر متمثلًا فى حركة حماس، التى لن تسمح بالطبع بفك هذا الاشتباك بسهولة فاستفادتها من منظومة الأنفاق والتهريب كبيرة وحيوية للغاية، خاصة مع وضع الحصار المفروض عليها من قبل الاحتلال الإسرائيلى.
المحطة التالية التى شكلت نقطة فارقة حقيقية فى المشهد السيناوى جاءت بعد تاريخ ثورة 30 يونيو 2013م، والتى فيها تقدمت قوات الجيش لتصل إلى هذه المنطقة لمحاصرة تلك الفوضى المسلحة والانفلات الأمنى الذى يفوق قدرات الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية، وكانت ردة فعل تلك التنظيمات المسلحة التى نعمت برعاية جماعة الإخوان أن ترد لها الجميل بداية بإعلان الحرب الصريحة ضد النظام الذى تشكل فيما بعد إزاحة الإخوان عن السلطة، وثانيًا أن تلك الجماعات المسلحة قامت بالاتحاد تحت لواء التنظيم الأكبر، وهو (تنظيم أنصار بيت المقدس) لتوحد جهودها وإمكانياتها البشرية والتسليحية فى مواجهة القوات التابعة للجيش والأمن، ومنذ هذا التاريخ وحتى الآن تدور المواجهة الشرسة ما بين الدولة وبين تنظيم كبير مجهز بكل أنواع الأسلحة المتنوعة، ويتلقى دعمًا مستمرًا ومتجددًا من أطراف خارجية عدة أقربهم إليه حركة حماس من داخل قطاع غزة ومن وراءها تركيا تخطيطًا وقطر تمويلًا.
لم يكن التعاون ما بين قبائل سيناء وبين قوات الجيش فى تلك المواجهة المعقدة فى أفضل صورة، خاصة أن التنظيم قد فطن إلى أن هذا التعاون يصيبه فى مقتل ويفقده أهم عناصر قوته، لذلك لجأ مبكرًا لإرهاب كل المواطنين الذين يقدمون المساعدات للأجهزة الأمنية بأى صورة كانت، ووصل الإرهاب لحد ارتكاب جرائم قتل عديدة ضد من تحوم الشبهات حول قيامه بمثل هذه الأدوار، وقد تطور الفعل بعد مبايعة التنظيم لداعش أن بدأ يمارس نفس المنهج الداعشى فى ذبح العديد من المواطنين العزل، وتصوير تلك الجرائم ونشرها، لخلق حالة من الرعب والهلع لدى أبناء القبائل فى حال قيامهم بمساعدة رجال الجيش أو الأمن فى محاصرة النشاط الإرهابى، وهو ما انتقل بالفعل لأبناء القبائل، وانعكس من خلاله قلقًا كبيرًا لدى أجهزة الدولة على حياة مواطنيها فى هذه المنطقة الخطرة. ولذلك يبدو أن الشكل المطلوب للتعاون يحتاج إلى أفكار وآلية جديدة وصادقة، خاصة نحن نتحدث عن عمليات إرهابية تتم فى وسط شوارع عاصمة المحافظة مدينة العريش تستهدف مؤخرًا الأشقاء المسيحيين، فى محاولة لرفع درجة التوتر والخوف لدى الأهالى لدرجته القصوى، وردًا على السؤال والمقترح الشائك الذى يتداول بقوة مع كل موجة تنامٍ للعمليات الإرهابية بسيناء، نحاول اليوم أن نشتبك معه ونطرح وجهة نظر قد يكون من المهم التفاعل والتعاطى معها بالتعديل والتنقيح والرد عليها، مختصر ما يتم تداوله أنه مع تكرار العمليات الإرهابية بمدن شمال سيناء «العريش، الشيخ زويد، رفح»، وسقوط الشهداء والضحايا، فلماذا لا يتم إخلاء أو تهجير سكان هذه البلدات الثلاث إلى أماكن بديلة، افساحًا لمجال العمل العسكرى والأمنى من أجل القضاء على التنظيمات الإرهابية، باعتبار أن عناصر التنظيمات الإرهابية تتخذ من سكان ومفردات حياة تلك المدن والقرى المحيطة بها ستارًا ودروعًا، تمارس من خلفه نشاطها الإرهابى، وهى فى ذلك تعقد معادلة المواجهة أمام قوات الجيش والأمن، وفى مساحة كشف متقدمة ومطلوبة فى هذا السياق يحتوى هذا الطرح على اتهامات مبطنة لأهالى شمال سيناء، بأن هذه التنظيمات الإرهابية ما كانت لتنجح فى تنفيذ عملياتها الإرهابية، والتى تقع بداخل شوارع وأزقة تلك المدن تحديدًا، من دون أن تكون هناك مساعدات ثمينة وفاعلة من أهالى تلك المدن تقدم لتلك الخلايا المسلحة، ويستند مؤيدو هذا الطرح على نموذج يضعونه كمثال مقارب لما يذهبون إليه، خاص بتهجير مدن القناة إبان حرب الاستنزاف وحتى حرب أكتوبر.
مقاربة هذه الحالة مع نموذج إخلاء مدن القناة فى الحرب مع إسرائيل لتحرير سيناء أراها غير متوافقة إلى حد كبير، فوضعية الاحتلال واحتشاد الجيش المصرى لخوض معارك مفتوحة بكل أسلحة المواجهة، هى ما فرضت عليه إنشاء جبهة عمل عسكرى متكامل فى منطقة غرب القناة، فضلًا عن استهداف الجيش الإسرائيلى لتلك المنطقة فى محاولة منه للضغط على سير المعركة، بإلقاء مزيد من العبء على القوات المسلحة المصرية عبر استهداف المدنيين والمنشآت الحيوية. المعادلة اليوم ليست بهذا الوضوح والمباشرة، فمعادلة الإرهاب أكثر تعقيدًا من الاحتلال وحروب الجيوش المفتوحة رغم كونها أدنى منها بالطبع، لكنها هى طبيعة الصراع الجديد، وآليات مواجهتها تستلزم فكرًا وقوة حديثة تستطيع تفكيك وهزيمة تلك التعقيدات، التى ربما من أخطر أهدافها العديدة هو تدمير الحياة الطبيعية للسكان وللمدن والمناطق التى تستهدفها.
لدى سيناء مشكلة سكانية مركبة وهى أحد أخطر أسباب تنامى الإرهاب على تلك الساحة، لكن تركيب المشكلة أن تلك المناطق المشار إليها تفتقر إلى السكان وليس العكس، والتركيبة بذاتها بها العديد من الاختلالات التى تستدعى دعمها بالسكان وليس الخصم منها، والنقل السكانى الذى تم على الشريط الحدودى الشرقى بعمق كيلومترات للقضاء على منطقة الأنفاق مقبول جدًا ومهم للغاية، لكنه لا يصلح للتعميم البتة فى المدن المشار إليها، ورغم أن الدولة وتحديدًا القوات المسلحة قد تعاملت فى هذه الخطوة برصانة وتقدير لحالة النازحين من تلك المنطقة، إلا أن النجاح بدا وكأنه قد وقف فى منتصف الطريق، ولم يجد من يستثمره كنموذج أو يصل به إلى بر الأمان، فظلت التعويضات المالية المقبولة هى الظاهرة بالمشهد رغم أن هؤلاء كان من الممكن أن يشكلوا نواة مجتمعات جديدة مطلوبة بشدة فى منطقة يتصور أن يتقدم الإرهاب لملء فراغاتها، وهو ما تم بالفعل.
دوما يكون أول المرتابين والمعترضين على حلول التغيير الديموغرافى هم أهالى سيناء وقبائلها، وترتفع أصواتهم بالاحتجاج سريعًا ووصم من يطرحه من الباحثين أو السياسيين بأنه لا يتفهم طبيعة الحياة السيناوية، لكن بعد التفاعل الإرهابى الأخير فى سنوات ما بعد ثورة يونيو 2013م يكون لزامًا قول الحقيقة كاملة من دون زخارف لفظية، أهل سيناء الشمالية وقبائلها وحدهم لن يستطيعوا أن يشكلوا رقمًا إيجابيًا فى معادلة محاربة الإرهاب، وهذا بكل تأكيد ليس ذما فيهم ولا انتقاصًا من وطنيتهم، لكننا اليوم نبحث عن حلول متجاوزين مرحلة تعليق الاتهامات فى أعناق المسئولين عن الخلل، 27 ألف كيلو متر مربع يقطنه تعداد سكانى يقدر بـ 435 ألف نسمة وفق البيانات الرسمية لعام 2015م، إذن نحن أمام أحد أماكن الفقر السكانى الحاد بالمقارنة بالمساحة المذكورة، وهذه أول ملامح المشكلة المشار إليها.
وفى هذا يستتبع القول بأن تلك الكتلة البشرية ضئيلة الحجم تعيش فى مدن توصيفها الدقيق بأنها أشباه مدن، حتى ونحن نضع العاصمة العريش فى التقييم فهى ليست مدينة مجهزة لكى تكون القاطرة لباقى مدن وقرى المحافظة، وبإضافة عامل استهداف هؤلاء السكان والشباب منهم للارتباط بالتنظيمات الإرهابية على خلفية أسباب عديدة، منها العوز الاقتصادى وفى القلب منها الفراغ الحياتى الذى يفتقر لطموح الإيمان بصناعة المستقبل، والأخير الواجب رصده هو الانتماء الفكرى الغالب «عدديًا» للتيار الإخوانى والسلفى، وفى هذا الأخير تتشكل المادة الخام الجاهزة دوما أمام أى من التنظيمات الإرهابية فى حال تقدمها للنيل منها. إذن بمعادلة جادة لمن يريد أن يقطع الطريق على تلك التنظيمات عليه أن يتعامل مع تلك العناوين الثلاث المذكورة، وفق أجندة ممنهجة تكون مساعدة وداعمة للمواجهة العسكرية والأمنية الموجودة بالأساس.
ربما تلك الأجندة بداية لابد أن تجد حلولًا عملية لمشكلة تملك أهالى سيناء للأرض مع وضع كل ضمانات الحفاظ على مرجعيتها المصرية، لأن تلك الخطوة التى طال انتظارها ستشكل حالة ارتياح عام ما بين الدولة والأهالى، وهذا سينقل المشهد إلى إمكانية تقبل ما بعده، فالمطلوب وفق متغيرات الاتفاقات الجديدة أن يكون بشمال سيناء استهدافًا حقيقيًا منظمًا لنقل مليون مواطن لمحافظة شمال سيناء وحدها، وأن يكون هذا النقل سريعًا فيما لا يتجاوز عامين على الأكثر، وفى هذا الإجراء لابد ألا تعتمد الدولة على الانتقال الطبيعى والطوعى من خلال إقامة المشروعات الاقتصادية والتجارية، فهذه المراهنة بطيئة زمنيًا ولا تحقق المطلوب، فالهدف لابد أن يكون فى دخول هذا العدد للحياة فى سيناء فى حد ذاته وفق أى من الصيغ والمقترحات التى يمكن أن تطرح فى هذا الإطار، العامل الأول فيها بالطبع سيكون المميزات والاعفاءات لمن سينتقل لمدن الشمال، خاصة الأفق اليوم أصبح واعدًا بأن إقليم قناة السويس وشرق التفريعة مشروعان يمكنهما استيعاب عدد يقدر بعشرات الآلاف، فكنموذج يمكن اشتراط العمل بهما أن تكون إقامته فى محافظة شمال سيناء، لتدفع فى مجال صناعة مجتمعات جديدة وكثيفة تطرد النبت المنحرف من تلك الأرض الطاهرة، وتحقق التوازن والعلاج للمشكلة المزمنة التى هى فى كل الأحوال قبلة للتجدد والتمدد مع الفراغات الهائلة المتشكلة من الأراضى والمشكلات.