الوطن
د . محمد عثمان الخشت
التجديد الدينى والمعركة الزائفة حول التراث
إن التراث ملىء باتجاهات شتى متباعدة، ومن سبل تجديده -وليس كلها- إعادة التحليل النقدى لمكوناته تحليلاً علمياً، ثم إعادة بنائها لصنع مركّب جديد أو منظومة جديدة، مثل التعامل مع العناصر الكيميائية، من الممكن أن أصنع منها سماً أو أصنع منها دواءً. وفى أحيان أخرى يكون التجديد عن طريق تغيير المرجعيات البشرية، أو استدعاء الاتجاهات الأصيلة ونقض وتهميش الاتجاهات الرجعية. وهناك طرق أخرى كثيرة، لا أريد أن أتوقف عندها الآن.

ما أريد بيانه -هنا- هو أنه لا يمكن رفض القديم كله بحجة وجود بعض الأفكار الخاطئة أو الشاذة، فلا يمكن أن أرمى بكنز إلى البحر لأن به بعض العملات المزيفة؛ فمن يفعلون ذلك ما هم إلا حمقى مغرورون؛ لأنهم يقعون فى مغالطة منطقية واضحة، وهى الانتقال من «الحكم على الجزء» إلى «الحكم على الكل»، ففى منطقهم الفاسد ينطلقون من مقدمات جزئية صحيحة تؤكد أن (بعض آراء التراث خاطئة)، ثم يقفزون إلى نتيجة كلية فاسدة (كل آراء التراث خاطئة)! وهذا ما يسميه علم المنطق التّعميم المتسرّع «Hasty Generalization»، حيث يستنتج المغالطون صفات «فئة كلّيّة» من خصائص «عيّنة صغيرة جزئية محدودة» من هذه الفئة.

وللتوضيح: إنهم مثل أولئك الذين ينظرون إلى سلة تفاح بها عشر تفاحات، ويستنتجون ببساطة أن «كل التفاح فاسد» لأن «السلة بها ثلاث تفاحات فاسدة»، ومثلهم مثل الذين يرون صدق الحكم الجزئى أن «بعض المواطنين كذابون»، ثم يقفزون بكل رعونة إلى الحكم الكلى أن «كل المواطنين كذابون».

كما لا يمكن قبول التراث كله بحجة أن الماضى مقدس كله.. والذين يفعلون ذلك يقعون فى المغالطة السابقة نفسها، فينطلقون من «عينات جزئية» أخرى صحيحة هى: أن «بعض آراء التراث صحيحة وتتطابق مع المقدس والعقل الصريح»، ثم يقفزون إلى نتيجة كلية فاسدة «كل آراء التراث صحيحة وتتطابق مع المقدس والعقل الصريح»!

إن هذا التعميم المتسرع فى القضايا الكبرى هو أهم خصائص النظام العقلى الفاسد الذى يحكم تفكيرنا، ليس فى التفكير الدينى فقط لكن أيضاً فى الحياة اليومية مروراً بالإعلام ووصولاً إلى أعلى الهرم الذى تتربع عليه النخبة الثقافية التى تحكم حياتنا الفكرية منذ مطلع العصر العربى الحديث فى بداية القرن التاسع عشر.

إن التعصب سواء كان مع التراث كله أو ضد التراث كله، وسواء كان تعصباً لجماعة أو تعصباً للذات، طفولة فكرية؛ فالمتعصب مثل الطفل يعتقد أنه مركز الكون! وما هذا إلا لأن المتعصب لا يستطيع أن يرى عيوب تفكيره، حتى لو واجهته بالنص قطعى الثبوت محكم الدلالة أو مقاصد الشريعة أو روح الإسلام فى قرآنه وسنته الصحيحة.

لذا، فإن قبول التراث كله لا يقل حماقة عن رفضه كله؛ فكلاهما تعصب، وكلاهما يسيطران على الساحة الفكرية والدينية المعاصرة، فأمتنا مبتلاة بسيطرة تيارين نقيضين كليهما بعيد عن «الوسط الذهبى» للإسلام والعقل البدهى. ولن نخرج من الفتن إلا بالوصول إلى هذا الوسط الذهبى. ومن أسف فإن صراع الطرفين النقيضين لم يتمخض حتى الآن عن الوصول إلى مركب جديد يحل الإشكالية بين الإخوة الأعداء: «الأصولية» و«العلمانية».

وما هذا فى أحد أسبابه إلا لهيمنة «الدوجماطيقية= التعصب المطلق» على النظام العقلى الذى يحكم تفكير الجميع على الجبهتين المتصارعتين. ولم يتمكن أى طرف من إدراك «الفخ العقلى» الذى وقع فيه؛ فالدوجماطيقية فخ، وهى عملية تستخدم حيلة مخادعة لإيقاع جميع الأطراف فى فخها. يقول أندريه لالاند، الفيلسوف الفرنسى الشهير: «الدوجماطيقية حيلة فكرية مخاتلة قائمة على تأكيد المرء لمعتقداته بأمر وسلطان، ودون القبول بأنها قد تحتمل شيئاً من النقص أو الخطأ». ومعنى «مخاتلة» أى مخادعة.

ومن اللافت أن القرآن رصد حيل الخداع والانخداع بدون وعى، ووقف عندها، وكشفها، ونقد أصحابها الذين يؤكدون معتقداتهم غالباً بسلطة الآباء دون برهان عقلى أو سلطان من وحى مبين، لكن يبدو أن مرضى القلوب والعقول لا حل لهم بتحكيم الواقع الحى أو العقل المحكم أو الوحى الثابت، ويبدو أن الحل فى العيادات النفسية!

والمفارقة أن آلية «إهانة» التراث كله تخرج من رحم النظام العقلى نفسه الذى يحكم «التمجيد» للتراث كله، إنه النظام العقلى الذى يشبه حركة البندول، فنقطة ارتكاز البندول هى التعصب، والبندول تارة يذهب إلى الاتحاد كلية مع الطرف أقصى اليمين، وتارة يذهب كلية إلى الطرف المناقض أقصى اليسار!

إن حركة العقل المتعصب ضد التراث كله هى نفسها حركة العقل المتعصب مع التراث كله؛ هى القفاز نفسه لكنه مقلوب! طرف يتعصب لعقل يحكمه الهوى دون برهان محكم أو سلطان من العلم، وطرف يتعصب لكل النصوص دون تمييز الإلهى من البشرى، ودون تمييز بين الصحيح والضعيف، ودون الوعى بالثابت والمتغير فى التشريع.

وكلاهما محكوم بالنظام العقلى ذاته القائم على «التعميم المتسرع» و«الدوجما» وأشياء أخرى نرجو أن نكشف عنها تدريجياً. وكلاهما يستخدم منهج التفكير نفسه الذى يحكم ماكينات الاستنتاج والاستنباط والاستدلال.

نحن إذن نؤكد مجدداً على الحاجة إلى ثورة عقلية على طرق التفكير الحاكمة لحياتنا، وبدون ذلك لن يتغير الخطاب الدينى، ولن ندخل عصراً حداثياً جديداً
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف