سؤال مازال يفرض نفسه: «من يصنع صورة مصر»؟، والسؤال لم يعد مفروضا لذاته، وإنما لأن «اللغة القديمة» لم تعد مناسبة فى الزمن الجديد، ولم يعد كافيا أن يتم الاكتفاء بالدفاع ضد الاتهامات أو الأكاذيب التى يروجها الخصوم، بل بات الأمر أصعب من ذلك، بل وأعقد من ذلك، لقد بات الأمر يتعلق بتقديم «صورة جذابة»، بل وتعكس «حداثة جذابة» من أجل تحسين صورة وسمعة البلاد حول العالم، وأخشى أن أقول إن العملية أبعد من ذلك، لأنها تتعلق أولا «بخلق صورة ذهنية» من الأساس، وهنا نتحدث عن «علامة تجارية» للدولة ما بين بقية دول العالم، وهذه «العلامة التجارية» للدولة هى التى سوف تحسم إلى حد بعيد قرارات شراء منتجات هذه الدولة، وقرار السفر إلى هذه الدولة، وقرار الاستثمار بها، أى باختصار حصيلتها من «العملة الأجنبية»، وقدرتها التنافسية، والآن ندرك أن هذه العملية الخاصة بخلق «العلامة التجارية ـ والصورة الذهنية» لدولة ما باتت صناعة معقدة، وعملية كبرى لابد لها من «خلية مبدعة» تعمل بمثابة «العقل المدبر» لتنسيق الجهود وتحريك فرق العمل وصولا إلى «الصورة الذهنية» المطلوبة، وهنا نحن سوف نحاول مرة أخرى أن نقترب من الفرص والتحديات لهذه العملية.
والبداية المثيرة أن إحدى الشركات المتخصصة وتدعى «فيوتشر براند» البريطانية أجرت دراسة علمية على 75 دولة لمعرفة الدول التى تنطبق عليها معايير «العلامة التجارية للدول»، وخلصت الدراسة إلى أن 22 دولة فقط هى التى تلبى هذه المعايير، كما جاءت 13 دولة فى الصدارة وهى: اليابان وسويسرا وألمانيا والسويد ونيوزيلندا وبريطانيا وفنلندا وسنغافورة وهولندا وفرنسا وإيطاليا والإمارات وكوريا الجنوبية، ويقول معدو الدراسة إن «العلامة التجارية القوية» لدولة ما تحدث قرارات إيجابية فيما يتعلق بقرارات الشراء والسياحة والاستثمار.
وسنحاول هنا أن نتوقف أمام «أدوات القوة الناعمة»، وكيف تسهم فى خلق العلامة التجارية للدولة، وتعزز الصورة الذهنية الجيدة، والأهم أنها تعزز الأمن القومى لهذه الدولة بأن تخرجها من قائمة الدول المارقة أو «الدول المتخلفة»، أو «الدول التى غرقت فى بحور الإرهاب»، وهنا فإن المسلسلات التليفزيونية فقط باتت أحدث الوسائل الفعالة، ويقول الخبراء: «لقد حققت هذه المسلسلات شيئا لم تكن الوسائل الدبلوماسية لتحققه، إنه شىء لا يصدق»، وهنا فإن صادرات كوريا الجنوبية من المسلسلات قفزت من 8 ملايين دولار فى 2001 إلى 155 مليون دولار عام 2011 حسب تقرير صحيفة «الفاينانشيال تايمز» البريطانية، بل إن أماكن التصوير أصبحت أماكن سياحية زارها 200 ألف شخص، وبعيدا عن ذلك فإن هذه المسلسلات كانت محرضة للهروب من كوريا الشمالية.
وفى تقرير لتليفزيون الـ «بى.بى.سى» فإن المسلسلات التركية يشاهدها 400 مليون شخص فى أكثر من 140 بلدا حول العالم، وتحقق المبيعات الدولية لهذه المسلسلات 250 مليون دولار، ويتوقع بدر ارسلان المدير العام لجمعية المصدرين الأتراك أن تقفز الأرقام لتصل إلى مليار دولار بحلول 2023، وهنا يشير تقرير الـ«بى.بى.سى» إلى أن مسلسل «ماذا ذنب فاطمة غل»أحدث صدى واسعا فى أمريكا الجنوبية، وذلك بعد دبلجته إلى اللغتين الإسبانية والبرتغالية، ولقد شاهد 12 مليون شخص المسلسل فى الأرجنتين فقط!، وعندما زار أردوغان تشيلى كان الحوار معه يبدأ عن المسلسل!.
وإذا ما اقتربنا فإن المغرب من عائدات تصوير الأفلام الأجنبية حقق 1.6 مليار درهم، ووفقا للمركز السينمائى المغربى فقد جرى تصوير 38 فيلما أجنبيا خلال 2014، وفى الوقت نفسه فإن تقرير «ارنست أنديرنج» يكشف عن أن إيرادات صناعة الترفيه والإعلام فى الهند وصلت إلى 25 مليار دولار فى 2014، وأن عائدات صناعة السينما فى العالم تصل إلى 38 مليار دولار، وأن «نوولى وود» فى نيجيريا حققت 3.3 مليار دولار من السينما وذلك طبقا لأرقام الحكومة النيجيرية عن عام 2014، وأن نيجيريا أنتجت 1844 فيلما فى 2013؟!، وأحسب أن ذلك كله يرسم الصورة التى تقول إن «المسلسلات والأفلام» بل وصناعة الترفيه بصورة عامة إحدى الوسائل المهمة لجذب الجيل الجديد، كما أنها باتت «سلاحا فعالا» فى الدعاية السياسية لبلد ما، ويكفى هنا أن أشير إلى أن المسلسلات والأفلام المصرية هى التى نشرت اللهجة المصرية، وحب مصر فى البيوت العربية من المحيط إلى الخليج، إذن الأمر يحتاج إلى نظرة عميقة!.
وإذا ما ذهبنا قليلا إلى السياحة والتى باتت أحد أهم مصادر الدخل للدول فى العالم، بل و«الخطوة الأولى» التى تمهد للاستثمار الأجنبى، فإننى أتوقف عند أزمة السياحة المصرية وحكاية الـ3 ملايين سائح روسى، وهنا فإن رقما واحدا أطلق فى ندوة مجلة «الصين اليوم» عن العلاقات البرلمانية المصرية الصينية جعلنى أتوقف وأبحث، فقد قيل الكثير عن تحسن مستوى الدخل فى الصين، والسفر إلى الخارج، وكشف معهد أبحاث السياحة الصينى أن 120 مليون سائح صينى قد سافروا إلى الخارج خلال عام 2015، وأن السائحين أنفقوا 104.5 مليار دولار.
وهنا فإن مصر استقبلت 116 ألف سائح خلال 2015، ونحو 180 ألف سائح خلال 2016 وفقا للأرقام المصرية، وهنا بدلا من أن يكون المستهدف مليون سائح فقط فإن مصر عليها أن تجرى »مباحثات مكثفة« وعلى أعلى مستوى لكى تحصل على 5 ملايين سائح صينى، هذه خطوة يجب أن تبدأ عملية التفاوض بشأنها الآن وليس غدا، وأن يتم ربطها بمجمل العلاقات خاصة وأن ميزان المعاملات يميل لصالح الصين.
ويبقى أن هذه بعض ملامح العملية التى يجب أن تبدأ لخلق »علامة تجارية للدولة المصرية« تنتمى إلى الزمن الجديد، ولعل من المهم هنا أن تتراجع صورة الدولة التى تشتبك مع الإرهاب عن صدارة المشهد، وليس سرا أن هذه الصورة الذهنية المرتبطة بالإرهاب سوف تدفع إلى شكوك بشأن استقرار مصر، وجاهزيتها لاستقبال حركة سياحية كبرى واستثمارات كبيرة، وذلك على الرغم من أن الدولة المصرية ومدنها السياحية آمنة، وأحسب أن الوقت حان لأن يتم تشكيل »وحدة خاصة« تعكف على وضع برنامج عمل لتصنيع هذه الصورة، وأن تقتحم وبقوة عوائق صناعة الدراما والسينما، وأن تضع حزمة جديدة لإطلاق صناعة كرة القدم، كما أن علينا الاهتمام وبشدة بصناعة الإعلام والمؤسسات الإعلامية ودور النشر، بالإضافة إلى صناعة تكنولوجيا المعلومات.. هذه أدوات القوة الناعمة، والتى تحتاج إلى هجران »اللغة القديمة« والأفكار والشخصيات الفاشلة، نظرا لأنها لم تعد صالحة فى هذا الزمن الجديد!.